الأصل فى الإنسان أن يحب وطنه (المكان والإنسان)، وأن يسعى للبقاء فيه.. اطمئناناً وأنساً، وأن يجاهد لرفعته وإعلاء شأنه..
ورغم ذلك فإن ملايين البشر يغتربون، ويتركون أوطانهم.. فمنهم المهاجر الذى لا ينوى العودة، ومنهم المسافر الذى يتشوق للرجوع، وما بين هذا وذاك تصانيف أخرى، ونوايا عديدة..
قد نغترب سعياً وراء الرزق – وهذا أكثره، وقد نغترب أملاً فى حياة أفضل، وقد نغترب هروباً من واقع أو تغييراً له، وقد نغترب بحثاً عن مجهول لا نعلمه أو سعادة لا نعرف كنهها.
وما أعلمه أن المصريين من أكثر شعوب الأرض ارتباطاً بوطنهم، وقد تكون هذه طبيعة البلدان الزراعية التى يرتبط أهلها بأرضهم، وزرعههم، ومياههم..
ورغم ذلك فإن المصريين هم أيضاً من أكثر شعوب الأرض اغتراباً، وترحالاً.. فأعداد مغتربيهم بالملايين شرقاً وغرباً..
إذن.. لماذا؟!
لماذا نغترب؟
ولأن مراكزنا البحثية لاهية، ولأن الإحصاءات فى بلادنا ترف؛ فإنك لا تعرف لسؤالك إجابة شافية، ولا تعرف للإجابات أسباباً كافية..
فلا أستطيع أن أجيب أنا نيابة عن ملايين المغتربين، ولكنى قد أحاول الإجابة عن نفسى، ولنفسى!
فقد التقيت شاباً مغترباً، سبقنى إلى الغربة منذ ثلاث سنوات، وسألنى السؤال ولكن بطريقة مختلفة.
فبعد أن سألنى عن أحوال البلد، وما يموج فيها.. عن ناسها، وأرضها، وحالها.. وبعد أن أجبته الإجابة التى يسمعها من كل مغترب جديد بازدياد الأمور سوءاً فى البشر كما فى الحجر، وفى الحال كما فى المآل، وفى النفوس كما فى العقول، وفى العدل كما فى الحقوق..
سألنى حينها مستنكراً أو مستفهماً: أليست غربتنا هروباً؟ وإن سافرنا نحن، وسافر غيرنا، فمن ينقذ هذا البلد، ومن يأخذ بيده ليرفعه من عثرته، بل كسرته؟!
أجبته الإجابات المعتادة، والتى كررها معى، ليؤكد لنفسه أنه مجبر، وأن السبل سدت فى طريقه، وأن الأمور لم تكن لتحتمل المزيد، و…..
وتركت لنفسى ما يخصنى من الإجابة..
فهل فعلاً هربت؟
وهل اخترت حظ النفس؟
لا أملك لذلك إجابة قاطعة، ولكنى أملك مجموعة من الظروف قد تساعد فى الحصول على إجابة سؤال: لماذا اغتربت؟
فأنا أزعم أنى لم أكن أملك خياراً آخر، فاخترت غربة، وتركت وطناً؛ لأنى قد وضعت نفسى (بأخطائى) فى زاوية مهنية لم تعطِ لى من الخيارات الكثير، بل صرت بهذه الأخطاء أسيراً لقرارات غيرى، وتبعاً لإرادات من ساقهم الله إلىّ رحمة بى..
كما أقر بأنى قد فشلت فى تغيير ما كنت أود تغييره، وأنى قد أصبت بنكسة فى الطريق الذى اخترته لتغيير الواقع الذى نحياه؛ فقد حاولت مراراً وتكراراً، وفشلت.. نعم فشلت.
فلقد صدمنى من لم أنتظر منهم الصدمات، وأصابنى من أمنت جانبهم، وكسرنى من اتكأت عليهم..
فعندما يلهو من يزعمون إرادة التغيير..
ويقسو من تنتظر منهم الرحمة..
ويغفل من تركن إليهم الأمة..
ويجهل من يحملون القناديل..
فلا بد أن تتوقف قليلاً، وأن تتريث فى مشيك، بل وأن تبتعد فترة لتقيم ما كان، وترتب لما سيكون..
لا بد حينها أن تنظر فى مرآة نفسك، كما تفحصت مرآة غيرك..
كما لا بد أن تراجع الطريق (الذى لا تظن طريقاً غيره) لتتعرف على عثراته فتتجنبها، ولتشققاته فتنظر فى أسبابها..
فترة بحث عن وسيلة جديدة لذات الهدف، وعن مسار جديد لنفس الطريق يتجنب زلل ما كان، ويأمل فى صواب ما يكون..
كما أنى لى فيها أيضاً مآرب أخرى..
كانت هذه إجابتى لنفسى..
فهل يا ترى عرفت (أنا) لماذا اغتربت؟
إخوانى.. أخواتى
لم تكن هذه التدوينة زفرة ضاقت بها نفسى، فأردت إخراجها إلى الفضاء، ولكنها كانت سعياً صادقاً للحث على الإجابة عن أسئلة حياتنا الكبرى.
فكما يسأل المغتربون أنفسهم: لماذا نغترب؟
فلا بد أن يسأل المقيمون أنفسهم أيضاً: لماذا نقيم؟