الأحداث المتلاحقة، والمتغيرات المتتابعة لا تعطي فرصة حقيقية لتحليل سليم، أو قراءة مبصرة، ولكنها قد تعطي فرصة للتحليق في الخيال، والتفكير خارج الصندوق؛ لمحاولة فهم ما يحدث.
ونظراً لتبدل المواقف، وتغيرها بشكل عجيب من معظم الأطراف الفاعلة في الساحة المصرية؛ بما يعجز عن فهم مسببات المواقف، أو دلالاتها؛ إلا من زاويتين اثنين:
الأولى: "الخيبة الثقيلة"؛ التي تفسر مبدئياً هذه المواقف المبعثرة المتناقضة (المتغابية في كثير من الأحيان!!) لبعض هذه القوى.
الثانية: "الشيطنة"؛ التي تفسر الحيل، والخدع التي تبدو ظاهراً متناقضة، وباطناً متكاملة؛ وهنا يبدو التناقض مسرحاً مكتمل الأدوات، والأركان، والوسائل، وما تلك المواقف المتباينة إلا ستار لنتائج أخرى يريدك الشيطان أن تندفع إليها اندفاعاً وراء غريزة، أو عاطفة!
أما "الخيبة الثقيلة" فلا حاجة لتحليلها، وفهم ما وراءها؛ فهي "خيبة ثقيلة" تودي بأصحابها إلى الانتقال الدائم من فشل إلى آخر دون عقل حاكم، ودون بصيرة نافذة!
تبقى "الشيطنة" محيرة، ومربكة؛ لأنه يبقى من الصعب أن تفهم موقفاً يصمم لك لتندفع وراءه، لتحقق هدفاً يخطط له الشيطان بدقة، لتنفذه أنت بنفسك ظاناً أنك تجابه الشيطان، وتواجهه مواجهة حاسمة فاصلة!
وفي محاولتي لقراءة "الشيطنة" سأبني قراءتي على مجموعة من الافتراضات كمحاولة لتحجيم الخيال..
هذه الافتراضات (مجرد افتراضات) هي:
1- الإدارة الأمريكية لا تريد لمصر أن تغرق في الفوضى.. هي تريد لمصر في هذه المرحلة على الأقل مجرد فوضى جزئية، وحالة تخبط؛ فالموقع الاستراتيجي لمصر، وكثافتها السكانية العالية يمثلان حالة خطورة بالغة على الكيان الإسرائيلي في حالة فقد السيطرة التامة على الأمور من قبل السلطة حاكمة، وهو ما يفسر انتهاء الثورة المصرية سريعاً وحسمها بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية بعد 18 يوماً من محاولات الالتفات عليها.
2- الإقصاء التام للإسلاميين من خلال الاعتقالات والتعذيب والحظر مستبعد في هذه المرحلة؛ لذا فإن البديل الحالي هو لمسارين متوازيين متكاملين هما "الاحتواء"، و"الحرق الشعبي".
3- النموذج التركي الديمقراطي (ما قبل العدالة والتنمية) هو الهدف والغاية للنموذج.. أي وصاية عسكرية تابعة متوازية مع إجراءات ديمقراطية مع سلطة قضائية قيّمة على الحياة السياسية.
وبناء على هذه الافتراضات؛ فإنني أتخيل أن سيناريوهات الإدارة في هذه المرحلة ستسير بالشكل التالي:
1- إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها دون تعطيل بشكل ديمقراطي تام (إلا في حدود بعض التزوير الناعم البسيط الذي قد يلعب في أرقام بالآلاف إن تقاربت النتائج).
2أ- تمرير تعديلات قانون مباشرة الحقوق السياسية واستبعاد عمر سليمان وأحمد شفيق من الانتخابات، على أن يبقى ذلك تكئة للطعن في دستورية هذا القانون مستقبلاً ليبقى منصب الرئيس تحت رحمة المحكمة الدستورية العليا التي ستفصل أيضاً في دستورية قانون الانتخابات في مجلس الشعب، وبالتالي ستبقى ورقة بطلان انتخابات الرئاسة كما مجلس الشعب تحت رحمة محكمة عينها مبارك بكامل أعضائها (ملاحظة: تم تعديل قانون تشكيل المحكمة الدستورية العليا سراً قبل انعقاد مجلس الشعب مباشرة بحيث تعطي سلطة مطلقة لهيئة المحكمة وجمعيتها العمومية التي شكلها مبارك في اختيار رئيسها وأعضائها الجدد في المستقبل).
أو 2ب- تصدير المحكمة الدستورية العليا في الاعتراض على تعديلات قانون مباشرة الحقوق السياسية، والدخول في جدل قانوني يسمح في النهاية بالإبقاء على عمر سليمان وأحمد شفيق، واستخدام ذلك في غطاء كثيف للهجوم على الإخوان والمرشحين الآخرين في عدم احترامهم للقانون والدستور، مع استخدام هذا الترشح في إحياء آمال أعضاء الحزب الوطني السابقين، وكذلك أصحاب المصالح السابقين الذين أضيروا كثيراً خلال الفترة الماضية، واستغلالهم في تشتيت الناس العاديين، والتأثير عليهم.
3أ- الإبقاء على الشيخ حازم أبو إسماعيل في دائرة المنافسة الانتخابية، والاكتفاء بالمبررات القانونية الإجرائية التي اعتمد عليها حكم القضاء الإداري، على أن يكون وجود الشيخ حازم مع م. خيرت فرصة كبرى لتفتيت الإسلاميين من خلال منافسة انتخابية قاسية، وستسخدم فيها كل أسلحة التشويش، والاتهام من خلال أطراف تغذي هذا الخلاف بما يشوه صورة الطرفين أمام الرأي العام كجزء من مسار "الحرق الشعبي"، وفي حالة نجاح الشيخ حازم فإن ملف جنسية والدته سيظل مفتوحاً تخرج منه المستندات الأصلية بالتدريج، والتي لم تقدم للمحاكمة إلا من خلال صور ضوئية لا قيمة لها، وبالتالي يبقى تحت رحمة اتهامه بالكذب بما يفقده شعبيته ومصداقيته وسلامة إجراءات انتخابه، وإبقاء احتمالية قيام المحكمة الدستورية العليا بالحكم ببطلان إجراءات انتخابه مستقبلاً إن خرج عن مسار الاحتواء، أو إن استطاع أن يقود الدولة بالفعل بعيداً عن العنتريات المتوقعة!
أو 3ب- استبعاد الشيخ حازم من الانتخابات، بما يصحبه ذلك من قلاقل يثيرها أنصاره، ومن يندس بينهم بصورة قد تثير الفزع بين المصريين أولاً، وأمام العالم الخارجي ثانياً، وبما يشكك في مصداقية كل الإسلاميين، وإثبات تحايلهم على القانون، بما يصب في النهاية في صالح "عمرو موسى" في المنافسة الانتخابية.
4أ- الإبقاء على م. خيرت الشاطر في العملية الانتخابية، مع استخدام كل وسائل التشويه الإعلامي القانوني على شخصه وعلى جماعته سواء كان من المهيجين للسلفيين (في حالة بقاء الشيخ حازم)، أو من خلال تقارير يتم تسريبها عمداً لوسائل الإعلام حول ثروة خيرت الشاطر، وعلاقاته الخارجية، ومصادر تمويل الجماعة، وغيرها؛ بما يصب في النهاية في مسار "الحرق الشعبي" خاصة مع تكرار أخطاء الإخوان في إجراءات الجمعية التأسيسية، والتردد في طرح مرشح من عدمه، وضعف أداء مجلس الشعب، وتدهور الخدمات الأساسية في ظل وجود مجلس شعب لم يقدم شيئاً للناس، وبالتالي خسارته الانتخابات؛ أما في حالة نجاحه فسيتم إنهاك الإخوان (إن تمردوا على مسار الاحتواء)؛ لأنهم في هذه الحالة قد سيطروا على كل السلطات التنفيذية والتشريعية، وذلك من خلال فقد السيطرة الأمنية، وقلة موارد الدولة، وقلة الخدمات الأساسية، وبعض المشاكل الجوهرية الشعبية التي تتحكم فيها المخابرات بشكل غير مباشر، وكذلك تبقى قانونية الجماعة محل احتكاك مباشر من خلال السلطة القضائية بما يثبّت حلاً رسمياً للجماعة وربما لحزب الحرية والعدالة.. كما أن مساري "الجزرة / الاحتواء"، و"العصا / الحرق الشعبي" سيظلان متلازمين قبل حكم المحكمة الدستورية العليا ببطلان انتخابات مجلس الشعب، والرئاسة على التوالي (في حالة فشل الاحتواء)، أو أن تصل الأمور إلى حالة أزمة خدمية واجتماعية واقتصادية شاملة تجعل الجيش هو الملاذ الأخير للناس لضبط الأمور والكفر بكل السياسيين.
أو 4ب- استبعاد خيرت الشاطر من الانتخابات، وهو ما سيضعف فرص محمد مرسي في الفوز في الانتخابات (إن لم تنعدم هذه الفرص بسبب أنه مجرد مرشح احتياطي)؛ وستكون هزيمة الإخوان حينئذ مقدمة قوية لفقد "الشعبية" التي يعتمد عليها الإخوان دائما في صراعاتهم السياسية، وتبرير مواقفهم الحركية؛ مع سهولة طرح الحل القضائي للجماعة (وربما الحزب) كسيف مسلط دائماً من أصحاب السلطة الفعلية (الوصاية العسكرية والقيمية القضائية).
5أ- يبقى الحل الأسلم للمجلس العسكري وللإدارة الأمريكية يتمثل في نجاح عمرو موسى نجاحاً شعبياً حقيقياً، فهو الأقدر بكاريزميته، ودبلوماسيته في تبرير كل إجراءات الوصاية العسكرية (التي ستكون في هذه الحالة من وراء ستار)، مع إعطائه فرصة حقيقية في إدارة ناجحة في بعض الملفات الخدمية والخارجية بما يرفع من شعبيته، مع استمرار مساري "الاحتواء" و"الحرق الشعبي" للإخوان ولمجلس الشعب.
أو 5ب - في حالة نجاح أي مرشح خارج هذا الحل المثالي (للعسكر والإدارة الأمريكية) سيبقى سيف حكم المحكمة الدستورية مشرعاً في وجهي الرئيس، ومجلس الشعب، مع الاستمرار في الإنهاك الخدمي الشعبي، وفقدان السيطرة الأمنية، وإظهار الرئيس في موقف الضعيف الذي لا يستطيع إدارة البلد بشكل يسمح له بفرض شعبية حقيقية تدعمه في مواجهة العسكر وماكينة التبعية الأمريكية في مصر؛ بما يمهد لاستدعاء حامي الشعب المخلص، وعامود خيمته الأخير، والذي سيكون حينها قد أوفي بوعده بالخروج ظاهرياً من الساحة السياسية بعد أن أجرى انتخابات رئاسية نزيهة أتت بثوري هاجمه كثيراً أثناء المرحلة الانتقالية، وحينها يعود هذا الحام يبناء على رغبة شعبية.
تبقى هذه السيناريوهات افتراضية وشيطانية، ولكن ما حدث في العام الماضي يجعلنا أميل للخوف من تنفيذ هذه السيناريوهات الشيطانية، والحذر منها.
كلمة أخيرة.. كل من يفكرون في تنفيذ هذه السيناريوهات (إن صحت) ينسون أمرين اثنين:
الأول: أن تدابير الله تعالى أعلى وأكبر مما يظنون، ويفكرون.
الثاني: أن نجاح بعض سيناريوهاتهم السابقة هو بسبب آثام قوى سياسية، وأشخاص اعتمدوا على قواهم الذاتية، وأدواتهم البائسة، ولم يعتمدوا على قوى حية جديدة تتشكل، وإن كانتت في طور الإنشاء إلا أنها للشارع أقرب، وعن الممارسات السياسية التقليدية القديمة أبعد!!
بعد كل هذه السيناريوهات الشيطانية، أقولها بملء فيّ: "إني واثق في أن المستقبل القريب لن يكون أبداً في صالح هؤلاء الشياطين، وأذنابهم، والسائرين في فلكهم.. المستقبل أفضل بإذن الله.. لا أشك في ذلك أبداً".