كان جدى – رحمه الله – كثيراً ما يكرر أن مصر قبل الثورة كانت أفضل حالاً من مصر بعد الثورة، وكان دائماً ما يقول أن الناس كانوا أكثر صدقاً رغم فقرهم، وأكثر أمانة رغم عوزهم.
كان هذا هو هو نفس الانطباع الذى خرجت به من سيرة الدكتور / جلال أمين الذاتية "ماذا علمتنى الحياة".
فحين تحدث عن ظروف بيته الذى نشأ فيه فيه قال: "لم ترث أمى قرشاً واحداً من أسرتها ولم يرث أبى شيئاً يذكر، ولكن كان لأبى دائماً دخل معقول من وظيفته، كمدرس أو قاض أو أستاذ فى الجامعة، بالإضافة إلى مكافآت عما ينشره من مقالات وكتب أو يشترك فيه من لجان، سمح له بشراء بيت من دور واحد فى مصر الجديدة، ثم ببناء دور آخر فوقه.
كانت الملامح الأساسية لهذا البيت، الذى عشنا فيه طوال الثلاثينات ومعظم الأربعينات، تتكرر فصولها فى معظم بيوت أقاربى وأصدقائى ومعارفى. حجرات وشرفات واسعة، وأسقف مرتفعة (إذا ما قورنت ببيوت الطبقة الوسطى اليوم) فى منزل يندر أن يزيد ارتفاعه على ثلاثة أدوار. لم يكن هناك إذن ما يحول دون وصول الهواء أو أشعة الشمس، كما كان هناك دائماً متسع للأطفال للعب والجرى، سواء داخل البيت أو فى حديقة صغيرة حول البيت، أو فى الشارع، إذن كان من الممكن أن تمر عليهم الساعات دون ان يعكر صفوهم مرور سيارة واحدة".
كانت هذه حياة الطبقة المتوسطة كما أشار إليها كاتبنا الكبير متمثلة فى بيته، وبيت أقرانه.
كانت هناك إذن طبقة متوسطة تمثل صمام أمان للمجتمع، كانت هذه الطبقة تمثل معظم الموظفين، والحرفيين، والتجار..
وكان من بين هذه الطبقة مثقفو الأمة، وروادها فى كل الاتجاهات الفكرية، والسياسية، والاجتماعية..
وكانت هذه الطبقة تعيش عيشة كريمة تسمح لها بالإبداع، والنجاح، وحسن الإدارة..
ووجود هذه الطبقة كرمانة ميزان بين الفقراء، والأغنياء يسمح لأى مجتمع بالحياة، والنمو بصورة طبيعية، كما يسمح للمجتمع بأن يقوده فكرياً، واجتماعياً مبدعوه، ومفكروه.
كان ينتقل إلى هذه الطبقة المتوسطة كثير من الفقراء؛ بما أثبتوه من كفاءة، وما تمتعوا به من نبوغ وتفوق.
ترى أين تعيش الآن الطبقة المتوسطة (إن كانت موجودة أصلاً)؟
وترى ما حال النابهين من أمثال أحمد أمين (والد د. جلال أمين) فى زماننا الحالى؟
وفى صورة بديعة أخرى يصورها الكاتب كمقارنة بين رأس البر قبل الثورة، وبعدها يذكر: "لا بد أن كان لرأس البر سحر خاص للأطفال، فالبيوت ليست إلا عششاً مقامة على أرضيات من الخشب، والشوارع رملية غير مرصوفة فلا تسمح بمرور أى نوع من السيارات والدراجات، ومن ثم للأطفال أن يجروا ويلعبوا حول بيوتهم دون أن يخشى عليهم من شىء."
وعندما زار رأس البر مرة أخرى سنة 1957 قال: "كم كانت خيبة أملى. كانت العشش قد حل محل معظمها بيوت قبيحة مبنية بالطوب والحديد والأسمنت، وكان اكتظاظ شاطىء البحر وشاطىء النيل بالناس شديداً لدرجة كان لا بد أن تختفى معها أى مسحة من الجمال."
لم يكن هناك إذن فارق زمنى كبير بين الجمال، والقبح. كان الأمر لا يعدو سنوات تعد على الأصابع بين زيارة الطفل جلال أمين، وزيارته بعد ذلك وهو شاب؛ إلا أنها الفوضى التى بدأت تعم فى أركان هذا البلد بعد الثورة.
صحيح أن كثيراً من الفقراء المحرومين قد كانوا لا يزورون رأس البر فأصبحوا يزورونها؛ وهذا مما يحسب للثورة؛ ولكن هل كان حتماً أن يكون ذلك على حساب جمال المكان، وطبيعته!!
لم تكن مصر قبل الثورة جنة من جنان الأرض؛ بل إنها كانت مرتعاً لفساد علية القوم، وحاشية القصر الملكى؛ ولكن كان بها مقومات مجتمع حىّ.. يرفع من شأن نابهيه، ويعلى من شأن العلم.. مجتمع به حراك فكرى، وسياسى، واقتصادى، واجتماعى..
كانت بمصر وقتها مقومات تجعل منها دولة رائدة فى الشرق لو استغل ثوارها سمات هذا المجتمع الحى بعد قضائهم على بذرته الخبيثة.
ولكن جاءت الثورة، وقتلت هذا المجتمع الحى، وحولته إلى مجتمع عاطل، وجبان، ومتخاذل..
جاءت الثورة لتقضى على طبقة الأثرياء؛ فأنشات طبقة من الأثرياء الجدد.. أثرياء المال العام، و"الفهلوة"، والاستهلاك، وفى طريقها إلى ذلك قضت على الطبقة الوسطى، ونقلت مثقفيها، ومتعلميها إلى طبقة الفقراء..
لم يكن هذا بالطبع – وليد عقد من الزمان – ولكنه كان نتيجة طبيعية لأمراض اجتماعية نشأت فى رحم الثورة حين همشت المثقفين، وعطلت القانون، وأعلت من شأن العسكر..
وأترك للكاتب الكبير وصف بعضاً مما خلقته الثورة فى المجتمع: "كان المرء منا يخاف أن يتكلم فى السياسة فى حضور أى شخص غريب، فى سيارة تاكسى أو أمام زميل جديد فى الجامعة لم يتحقق بعد من ميوله السياسية، أو حتى أمام فراش الكلية الذى يحضر له القهوة والشاى، خشية أن يكون ممن استوظفتهم المخابرات أو المباحث العامة. أما التليفون فكنا واثقين من انه مراقب، ومن ثم كان من دواعى الحيطة عدم التفوه فى التليفون بالتعليق على أية شخصية سياسية مهمة أو إجراء مهم اتخذته الحكومة. وأما الخطابات فكان بعضها يأتى وقد تم فتحه وقراءته وأعيد لصقه بورقة كتب عليها (فتح بمعرفة الرقيب)".
سارت مصر من يومها على هذا الدرب الذى بدأته الثورة.. درب القبح، والفوضى، والعسكرة حتى أصبحت مصر 2008 كما نراها الآن..
عندما قرات الموضوع نظرت الي عدد التعليقات علية
ردحذففلمّلم اجد قلت لعله موضوع حديث نشر اليوم او الامس علي اكثر تقدير
فلمّا وجدته بتاريخ 1/4 اخذت افكر موضوع بهذا القيمة لماذا لم يرد عليه
لماذا لم يناقش الحقيقة لا اعرف
فهل تعرف انت
محمد كمال
سلام الله عليك: حقا كانت جدتي رحمها الله تتحدث بحنين لأيام الملك وعهده وأحوال الناس الميسورة وقتها ومازلت أنقب في ذاكرة والدي وكبار العائلة عن كل صور الجمال في العهود السابقة لأتحايل بجمال الخيال على قبح الواقع..مازلت شغوفة بقراءة ما يكتب عن هذه الأزمنة ومازلت مولعة بزيارة الأمكنة التي تحمل طابع الزمن الجميل الملئ بالخير والبركة والناس الطيبين.جزاك الله خيرا على السطور الممتعة برغم ما تبعثه في النفس من مرارة وحسرة كلما حاولت عقد مقارنة مستحيلة بين الزمن الذي تحكيه وبين الواقع الذي نحيا فيه!
ردحذف