الأربعاء، ١٠ ديسمبر ٢٠٠٨

عزازيل

Azazil

كانت علاقتى بالأدب - ولا تزال - علاقة ضعيفة؛ فأنا بطبيعتى أحب الوقائع، والأحداث، ولا أستمتع بالعالم الافتراضى، والخيال الذى يستهويه الأدباء. كما أحب اللغة الصريحة الواضحة، ولا أميل إلى التعبيرات الضمنية التى هى المحبرة الأولى للأدباء والقصاصين.

لم أخرج عن هذا الطور أبداً إلا فى روايات نجيب الكيلانى؛ لأنها فى غالبها معبرة عن مجموعة من القيم التى تقربها من لغة العقل، وتحليلاته أكثر ما تقربها من لغة الخيال، وتضميناته.

ولكن رواية "عزازيل" - إن صحت تسميتها بالرواية، أدخلتنى مرة أخرى فى عالم الأدب الرحيب الذى ينقل إليك المعانى، والقيم، والتمارين العقلية العظيمة فى سلاسة جريان الماء فى جدوله الذى تحيطه الخضرة، وتعلوه الزرقة، وتشدو حوله العصافير.

سمعت ما أثير حول هذه الرواية من ضجة، وانفعالات، واتهامات؛ إلا أننى لم أنتبه، ولم أتطلع لمحاولة فهم ما يجرى؛ لأنها فى النهاية رواية.

إلا أن رسالة بريدية حملت مرفقاً به الكتاب كاملاً قبل عطلة عيد الأضحى، دفعتنى للفضول؛ فانتظرت قدوم العيد، وفراغى الجزئى من أعبائى الحياتية، وفتحت الرواية مستطلعاً على حاسبى الشخصى؛ فلم أتركها - وهى التى تزيد على الثلاثمائة وخمسين صفحة - إلا وقد قرأتها رقاً رقاً، وسطراً سطراً.

فوجئت حين قرائتها بأنها سيرة ذاتية - وليست رواية بالمعنى التقليدى للكلمة - لراهب مصرى اسمه "هيبا" كتبها باللغة السريانية القديمة "الآرامية" منذ ما يزيد على ألف وخمسمائة عام.

كتبها الرجل تأريخاً لحياته، ولما يمور به عقله من أفكار، واضطرابات طوال سنى عمره التى قضاها ما بين صعيد مصر الذى نشأ فيه وترعرع، وبين الإسكندرية التى عاش فيها قليلاً من الزمن ثارت فيه الشجون والأحزان والقلاقل، وبين أورشليم - القدس - التى ذهب إليها حاجاً لكنيسة القيامة، وأخيراً قرب مدينة حلب فى الدير الذى دفن فيه رقائقه التى خط عليها سيرته الذاتية، وأخفاها عامداً حتى يأتى أوان استكشاف أسرارها، ومفاجآتها الذى لم يحن إلا فى عام 1997م فى خرابة أثرية لأطلال دير عاش فيه هذا الراهب الطبيب ردحاً من الزمن.

كان ما فى سيرة "هيبا" من تاريخ، وأحداث، ووقائع، ووقفات، وتحليلات كفيلاً بالفعل بأن يثير ضجة شديدة لجرأتها فى طرح رؤية راهب عايش المئين الأولى من عمر المسيحية، وما اعتراها من تغيرات، وقوانين إيمانية كتبت حروفها باللون الأحمر القانى.

كنت سعيداً وأنا أقرأ نفور الراهب من كل ما يخالف فطرة الإنسان التى فطر الله الناس عليها.. كنت مبهوراً وأنا أرى العقل البشرى - رغم فتور الوحى الإلهى - وهو يحاول الوصول للحقيقة، والإيمان الذى شوهه أصحاب المصالح؛ وإن سُمُّوا زوراً بهتاناً بأسماء وألقاب وأوصاف ما أنزل الله بها من سلطان.

كانت سعادتى أكثر بالرقى الإيمانى، والسمو الأخلاقى لرجل يقيس الأشياء بالفطرة، والمنطق معاً.. وبالقلب، والعقل سوياً.

لم أكن أعلم أن ثمة رهباناً كانوا يقضون الليالى الطوال - فعلاً لا قولاً - فى القرب من الخالق العظيم، وفى الصلاة إليه.. لم أكن أعلم أن منهم الزاهد فعلاً فى الدنيا زهداً مطلقاً - وإن خالف ذلك فطرة الإنسان، ولكنى رأيته بعينى "هيبا" لمن كان طعامهم مرة واحدة فى اليوم، ونومهم سويعات قليلة فى جوف الليل بعد صلاة طويلة لرب الأرباب.

رأيت من "هيبا" الضعف البشرى نحو الدنيا، ومباهجها، وعجائبها رغم محاولاته المتكررة للتغلب على هذا الضعف، وعلى هذه المنكرات - كما كان يراها دينه الذى تربى عليه.

رأيته وهو الطبيب الطموح الذى يعالج أمراض الفقراء والمحتاجين دون أجر ابتغاء للأجر ومساعدة للمحتاجين، ورأيت انفعالاته والأسقف "كيرلس" ينهاه عن طبه ضمناً، وهو يسأله: "من هو أعظم المتبحرين فى الطب؟" ثم وهو يرد على إجابته التى كانت تشير إلى "أمنحتب"، أو "أبقراط، أو "هيروفليوس"، أو "جالينوس" بقوله: "خطأ.. إجاباتك كلها خاطئة، فالذين ذكرتهم كلهم وثنيون، ولم يستطع واحد منهم أن يبرئ المجذوم والأبرص، وأن يحيى بلمسة من يده إنساناً مات"، ثم بقوله: "إن ربنا يسوع المسيح، أيها الراهب، هو بحر الطب، فتعلم منه، ومن سير القديسين والشهداء، واغترف البركات بيد تقواك وإخلاصك".

رأيت اضطرابه، وغضبه الصامت، ونفوره، والأسقف "كيرلس" يصف له العلوم بأنها: "خزعبلات المهرطقين، وأوهام المشتغلين بالفلك والرياضيات والسحر. فاعرف ذلك وابتعد عنه، لتقترب من سُبـُل الرب وطرق الخلاص، إن كنت تريد تاريخاً؟ إليك التوراة وسفر الملوك. أو تريد بلاغة؟ إليك سفر الأنبياء. أو تريد شعراً؟ إليك المزامير. وإن أردت الفلك والقانون والأخلاق، فإليك قانون الرب المجيد.".

وكانت صدمات "هيبا" الكبرى حين رأى أتباع الرب - المزعومين - وهم يقتلون أباه بوصفه: "لم أستطع منع ما انفلت من دموعى، حين وصفت له فزعى المهول فى ذلك اليوم المروّع، يوم كنت فى التاسعة من عمرى؛ فقد تربص بنا عوام المسيحيين عند المرسى الجنوبى، القريب من بوابة المعبد. كانوا يختبئون خلف الصخور من من قبل رسوّ القارب، ثم هرولوا نحونا كأشباح فرت من قعر الجحيم. قبل أن نفيق من هول منظرهم كانوا قد وصلوا إلينا من مكمنهم القريب.. سحبوا أبى من قاربه، وجرُّوه على الصخورليقتلوه طعناً بالسكاكين الصدئة التى كانوا يخبئونها تحت ملابسهم الرثة. كنت أزوم متحصِّنا بانكماشى فى زاوية القارب، وكان أبى غير متحصِّن بشىء، يصرخ تحت طعناتهم مستغيثاً بالإله الذى كان يؤمن به.".

كانت صدمته حينها من العوام، ولكن الطامة الكبرى كانت حين قتلت الأستاذة وعالمة الرياضيات، والمنطق "هيباتيا" على يد ابن الكنيسة بطرس القارئ بعد توجيه مباشر من رأس الكنيسة واسقفها حينذاك "كيرلـٌّس" بشكل بشع يصفه "هيبا" الراهب: "آه. لما التقط بطرس السكين الطويلة الصدئة، رآه سائق عربة هيباتيا، فقفز كالجرذان وجرى متوارياً بين جدران البيوت، كان بإمكان السائق أن يسرع بحصانيه فى الشارع الكبير. لكنه هرب، ولم يحاول أحد أن يلحق به! ظل الحصانان يسيران مرتبكين، حتى أوقفهما بطرس بذراعة الملوحة بالسكين.. أطلـَّت هيباتيا برأسها الملكى من شباك العربة، كانت عيناها فزعة مما تراه حولها. انعقد حاجباها، وكادت تقول شيئاً، لولا أن بطرس زعق فيها: جئناك يا عاهرة، يا عدوة الرب. امتدت نحوها يده الناهشة، وأيدٍ أخرى، حتى صارت كأنها ترتقى نحو السحاب فوق أذرعهم المشرعة، وبدأ الرعب فى وضح النهار. الأيادى الممدوة كالنصال، منها ما فتح باب العربة، ومنها ما شد ذيل الثوب الحريرى، ومنها ما جذب هيباتيا من ذراعها فألقاها على الأرض. انفلت شعرها الطويل الذى كان ملفوفاً كالتاج فوق رأسها، فأنشب فيه بطرس أصابعه، ولوى الخصلات حول معصمه، فصرخت، فصاح: باسم الرب، سوف نطهر أرض الرب.." وبعد وصف تقشعر له الأبدان كانت نهاية هيباتيا البشعة على أيدى جند الرب - المزعومين - فى صورة بيانية اقتربت من تصوير المشهد بكاميرا ثلاثية الأبعاد تمنعنى الإطالة من نقلها، وأكتفى بنهايتها التى يذكر فيها: "الذئاب انتزعوا الحبل من يد بطرس وهم يتصايحون، وجرّوا هيباتيا بعد ما صارت قطعة، بل قطعاً، من اللحم الأحمر المتهرئ. عند بوابة المعبد المهجور الذى بطرف الحى الملكى البرخيون ألقوها فوق كومة كبيرة من قطع الخشب، وبعدما صارت جثة هامدة.. ثم أشعلوا النار.. علا اللهب، وتتطاير الشرر.. وسكتت صرخات هيباتيا، بعدما بلغ نحيبها من فرط الألم، عنان السماء.".

هنا ترك "هيبا" الإسكندرية التى أتى إليها وكان يظنها مدينة للرب؛ فوجدها مدينة لعزازيل (الشيطان).

وفى موضع آخر يذكر "هيبا" فى مذكراته هذا الموقف المُعبـِّر عما يعتنقه من أفكار: "لما رأيت الأسقف أول مرة، استغربت واحترت، لأنه أطلَّ علينا من مقصورة مذَّهبة الجدار بالكامل، هى شرفة واحدة، فوقها صليب ضخم من الخشب، معلَّق عليها تمثال يسوع المصنوع من الجصِّ الملون. من جبهة المسيح المصلوب ويديه وقدميه، تتساقط الدماء الملونة بالأحمر القانى. نظرت إلى الثوب الممزق فى تمثال يسوع، ثم إلى الرداء الموشَّى للأسقف! ملابس يسوع أسمال بالية ممزقة عن صدره ومعظم أعضائه، وملابس الأسقف محلاة بخيوط ذهبية تغطيه كله، وبالكاد تظهر وجهه. يد يسوع فارغة من حطام دنيانا، وفى يد الأسقف صولجان أظنه، من شدة بريقه، مصنوعاً من الذهب الخالص. فوق رأس يسوع أشواك تاج الآلام، وعلى رأس الأسقف تاج الأسقفية الذهبى البراق.. بدا لى يسوع مستسلماً وهو يقبل تضحيته بنفسه على صليب الفداء، وبدا لى كيرلس مقبلاً على الإمساك بأطراف السماوات والأرض.".

كانت هذه الصورة الدنيوية المفرطة المرسومة فى المقطع السابق، بالإضافة إلى القسوة البالغة فى الموصوفة فى المقطع الذى يسبقه كافية لأن تزيد "هيبا" اضطراباً، وكفيلة بأن تزيد عقله المهتاج هيجاناً؛ فترك الإسكندرية، وذهب إلى حيث الراحة والهدوء، إلى أرض الديانات القديمة.

إلا أن حكمة بعض النساك، والقساوسة من أمثال الراهب الصموت الذى قال أمام "هيبا": "وليغفر الرب للإسكندرانيين ما فعلوه، وما يفعلونه الآن، وما سوف يفعلونه غدا! فكنيسة الإسكندرية لن تكف أبداً حتى تنهار، أو تنهار هذه الديانة كلها". أو ما قاله "نسطور": "يا هيبا ما يجرى فى الإسكندرية لا شأن للديانة به.. إن أول دم أريق فى هذه المدينة، بعد انتهاء زمن الاضطهاد الوثنى لأهل ديانتنا، كان دماً مسيحياً أراقته أياد مسيحية! فقد قتل الإسكندرانيون قبل خمسين سنة أسقف مدينتهم جورجيوس، لأنه كان يوافق على بعض آراء أريوس السكندرى. وقتلُ الناس باسم الدين، لا يجعله ديناً. إنها الدنيا التى ورثها ثيوفيلوس، وأورثها من بعده ابن أخته كيرلس. فلا تخلط الأمور ببعضها يا ولدى، فهؤلاء أهل سلطان لا أصحاب إيمان.. أهل قسوة دنيوية، لا محبة دنيوية.".. كانت هذه الكلمات هى التى تحفظ إيمان هيبا، إلا أن هؤلاء.. "نسطور" ومن سار على نهجه طردتهم المجامع المقدسة، ولعنتهم، وحرمتهم من مناصبهم الدينية!!

لم تخلُ السيرة الذاتية من بعض الفحش الذى ذكره "هيبا" حرصاً على أمانة السرد الحياتى، وحرصاً منه أيضاً على إظهار الضعف البشرى الطبيعى، والذى رأيته أنا أيضاً صورة من صور الرجوع إلى الطبيعة البشرية التى تحاول الرهبنة المبتدعة أن تحرم الإنسان منها.

أرى "هيبا" الممزق بين ما يقرأه فى قوانين الإيمان التى صاغتها المجامع المقدسة، وبين إيمانه الفطرى الذى آمن به الأسقف "نسطور"، والأسقف "تيودور" الذين حكم بكفرهما المجمع المقدس؛ لأنهما رفضا كون مريم العذراء أما للإله! أراه "بحيراً الراهب"، أو "ورقة بن نوفل".. أراه باحثاً عن الحقيقة بفطرته التى أرادوها أن تطمس بقوانين، وابتداعات ما أنزل الله بها من سلطان.. أراه من أهل الفترة الذين ذاقوا مرارة فتور الوحى، والانفصال المؤقت للسماء عن الأرض.. رحم الله "هيبا".

أظن أن هذه التطوافة على سيرة الراهب المصرى "هيبا" كافية كى لا يمل القارئ. كما أظن بأنها كفيلة بأن تشجع زوار المدونة على البحث سريعاً عن الكتاب كى يلتهموه كما التهمته.Yosouf Zeidan

كما أبدى إعجابى الشديد بمترجم هذه السيرة، والعالم الكبير "يوسف زيدان" على لغته البديعة،  وترجمته الراقية، وعمله الدءوب الذى استمر سبع سنين عكف فيها على إخراج هذه التحفة النادرة للوجود، فجزاه الله خير الجزاء، وقدّر له الخير حيث كان.

وحمداً لله أن هداه إلى التراجع عن قراره بتأجيل طبع ونشر هذا العمل البديع إلى ما بعد وفاته خوفاً من مصير الموت المفجع والمفاجئ للأب "وليم كازارى" الذى أشرف بنفسه على التنقيبات الأثرية لهذا الدير الذى وجدت الرقوقه أسفله!!!

إخوانى.. أخواتى

لم أقصد فى هذا الكتاب إساءة لأهل دين يؤمنون بما لا أؤمن به؛ ولكنى تحدثت عن فترة قاربت الستمائة عام فتر فيها الوحى - لحكمة يعلمها الله - فـَضَلَّ فيها الإنسان، وحار أثناءها المؤمنون، وهوت الإنسانية فى هوة سحيقة حتى أتى رسولنا الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - فأنقذ العالم من الضياع، وعدنا فى حاجة للرجوع إلى دينه - حقاً وصدقاً - كى ننتشل العالم مرة أخرى مما يمور فيه.

الاثنين، ٢ يونيو ٢٠٠٨

ماذا علمتنى الحياة؟ كيف يختارونهم؟!

safwat3__tcm6-95314

كان الفضول دائماً ما يدفعنى لمحاولة معرفة خبايا اختيار الشخصيات القريبة من الحكم.

وكنت - ولا زلت - متشوقاً لمعرفة الظروف التى قربت رجلاً مثل كمال الشاذلى من دوائر السلطة، وجعلته - فى فترة من الفترات - الآمر الناهى فى مجلس الشعب، بالاختيار المسبق للأعضاء، وبالشخط والنطر والزغر لمن تجرأ، وخرج عن نص سيناريو تمثيلية الديمقراطية.
كانت شخصية هذا الرجل - ولا تزال - فى مخيلتى معدومة المواهب السياسية من لباقة، وكياسة، وقدرة على التحليل والنقاش؛ بالإضافة طبعاً إلى الكاريزما المطلوبة لرجل فى مثل هذه المكانة.
وعندما قرأت كتاب الدكتور/ جلال أمين: "ماذا علمتنى الحياة؟" استطعت الاقتراب النسبى - مجرد الاقتراب - من كيفية تصعيد هؤلاء، وبالتالى الإجابة عن سؤال مهم، ألا وهو: كيف يختارونهم؟
تحدث د/ جلال أمين مثلاً عن د. رفعت المحجوب - رئيس مجلس الشعب السابق - وقد كان أستاذاً فى كلية الحقوق وقت أن كان الدكتور/ جلال أمين طالباً ثم عضواً بهيئة تدريسها.

refatsmol يحكى د/ جلال أمين عن د/ رفعت المحجوب قائلاً: "درّس لى رفعت المحجوب أثناء دراستى لدبلوم الدراسات العليا فى الاقتصاد، فيما يسمى "قاعة بحث"، كان المفروض فيها أن يكون الاعتماد على البحث والمناقشة أكثر من المحاضرة والامتحان، ولكنى لا أذكر أننا اجتمعنا قط لمناقشة أى شىء، ولا أذكر أنى سمعت منه رأياً ذا شأن فى هذه المشكلة الاقتصادية أو تلك. نعم كتبت له بحثاً عن "المادية الجدلية والمادية التاريخية، أقرّ موضوعه عندما عرضته عليه، ولكن لم يصدر منه أى قول يدل على أنه كلف نفسه عناء قراءته بعد انتهائى منه، والعبارة الوحيدة التى سمعتها منه فى التعليق على هذا البحث هو أن طباعته على الآلة الكاتبة لا بد ان تكون قد كلفتنى مبلغاً طائلاً".

ثم يتحدث عنه فى موضع آخر جُمع فيه أساتذة الجامعات فى جامعة القاهرة لتبرير نكبة - وليس نكسة - 1967م فيقول: "بدأ الاجتماع بظهور هذا الرجل الغريب، رفعت المحجوب، على المنصة وهو يرتدى زياً أغرب، يتكون من قميص وبنطلون من قماش الكاكى الذى يرتديه جنود الجيش أو الضباط، وكأنه قادم لتوه من معركة عسكرية. كان منظره جديراً بإثارة الضحك والاستهزاء الشديد لولا الموقف المأساوى الذى كنا فيه. وزاد الموقف مأساوية وإثارة للسخرية فى نفس الوقت أنه لم ينبس بأكثر من جملة أو جملتين قبل أن يجهش بالبكاء تأثراً. ولكن هذا البكاء لم يمنعه من أن يضّمن كلامه بضع عبارات فى مدح الرئيس والإشادة بعظمته وأبوّته للشعب المصرى.. إلخ. أكد لى هذا الموقف، مَن هذا الرجل الذى لم أشعر نحوه قط بأى حب أو احترام، ضآلة حجمه الحقيقى، ونوع الدور الذى يمكن أن يعهد إليه بأدائه، ولا يمكن أن يتجاوزه."
وفى مرة ثالثة يتحدث عنه د/ جلال أمين قائلاً: "أما الدكتور رفعت فلم يمنعه شىء من الاستمرار فيما كان فيه، هزيمة كان أم انتصاراً، رأسمالية كان أم اشتراكية. فعلى الرغم من تحول النظام تحولاً جذرياً من سياسة إلى نقيضها، فى مختلف مجالات السياسة الداخلية أو الخارجية، ظل الدكتور رفعت يخطب بفصاحة فى حدود ما تسمح به الظروف السائدة."
بالطبع كان د/ رفعت المحجوب عينة من أمثال عبده مشتاق الذى يقدمون كل أنواع القرابين طمعاً فى منصب، أو قرباً من سلطان.
ولا شك أنها عينة أحسن حالاً من لاحقاتها الحاليات!!
أما المواصفات التى تقرب فلاناً وتبعد آخر فلا زالت مجهولة لى بنسبة كبيرة حتى الآن، إلا أن الكاب الكبير أشار إليها حين حديثه عن منظمة الشباب التى أنشأت فى عصر الثورة لتكوين كوادر ثورية.
فقد قابل صاحب "ماذا علمتنى الحياة؟" الدكتور / حسين كامل بهاء الدين - وزير التعليم السابق - وكان وقت الثورة مسئولاً عن منظمة الشباب. وقد قابله ليرى مدى اقتراب صاحب سيرتنا الذاتية من المواصفات المؤهلة للاقتراب من دوائر السلطة؛ إلا أنه لم يرَ فيه تلك المواصفات المطلوبة.
ولم يفهم د/ جلال أمين طبعاً سبباً لذلك؛ إلا أن زميلاً له بكلية الحقوق أخبره بأن المسئول الكبير - د/ حسين كامل بهاء الدين - قال له - كما ورد فى الكتاب "إنى لا أصلح للعمل معهم "لأن لى تاريخاً"، وإنهم يريدون "أشخاصً بلا تاريخ"!.
ويعلق على ذلك د/ جلال أمين قائلاً: "إن كثيراً ممن استعانوا بهم فى تلك الأيام والأيام التالية كانوا من النوع الذى لا يؤمن بشىء على الإطلاق، ألقوا محاضرات على الشباب فى الاشتراكية فى ذلك الوقت، أى فى منتصف الستينات، ثم ألقوا محاضرات وكتبوا مقالات فى التنديد بالاشتراكية فى السبعينات، وأصبحوا وزراء فى الثمانينات أو التسعينات".
ويبلغ الدكتور/ جلال أمين مبلغاً أكبر فى الجرأة حين يصف السادات الذى كان "عبده مشتاقاً" فى الخمسينات والستينات، ثم أصبح رئيساً فى السبعينات قائلاً عنه: "فإذا سئل مرة عن أهم ما قرأه من كتب ذكر كتاب أبى "فيض الخاطر"، الذى يضم مقالات أبى فى مختلف الموضوعات والتى سبق نشرها فى مجلات غير أكاديمية. ويذكر اسم الكتاب خطأ فيسميه "خواطر"، ويقول أيضاً لكى يدلل على سعة اطلاعه، إنه قرأ المراجع التى ذكرها أبى فى نهاية كتاب "خواطر"، والكتاب بحكم طبيعته لا يذكر اسم أى مرجع على الإطلاق".
وذكرنى هذا بمن كان أقصى طموحه تعيينه سفيراً لمصر فى لندن، ثم أصبح ....!!!
ويحكى صاحب "ماذا علمتنى الحياة؟" موقفاً غريباً - أو من المفترض أن يكون كذلك - عن ندوة تليفزيونية عقدت فى تليفزيون الكويت عن زيارة السادات للعدو الصهيونى، وكان حاضراً فيها مع ضيف فلسطينى، ووزير مصرى سابق، فيقول عن الوزير المصرى: "وفوجئت أنا إذ وجدته يدافع عن هذه الزيارة طالما كان الميكروفون مفتوحاً والتسجيل جارياً، بينما يقول لنا إنه يؤيد موقفنا المعارض للزيارة تمام التأييد، عندما نكون فى فترة استراحة ويكون الميكروفون مغلقاً.".
ولكن كانت هناك طريقة أخرى لاختيار الوزراء غير البحث عن المواصفات، والسير الذاتية.. كانت هذه الطريقة ما ذكره د/ جلال أمين عن طريقة اختيار د/ حافظ غانم فى إحدى الوزارات قائلاً: "وقد تناقل الناس بعد ذلك قصة طريفة أعتقد أنها صحيحة، وهى أن عبد الناصر أثناء اختياره للوزراء الجدد عبّر عن رغبته فى أن يدخل الوزارة "غانم بتاع الحقوق"، دون أن يلتفت إلى أن فى كلية الحقوق غانمين وليس غانماً واحداً، العميد والوكيل. وأغلب الظن أن كان يقصد إسماعيل غانم، فهو، وليس الدكتور حافظ غانم، المعروف بميوله الاشتراكية وباستقلاله فى الرأى. ولكن لسبب ما عرضت الوزارة على الوكيل دون العميد".
وتبقى الأجواء المحيطة بذوى المنصب، والسلطان كافية لتعبر عمن يتم اختيارهم لمثل تلك المناصب، وألخصها بما ورد فى السيرة الذاتية "ماذا علمتنى الحياة؟" على لسان الدكتور/ إسماعيل غانم - الذى أصبح لاحقاً وزيراً فى الحقبة الساداتية - وكان رجلاً ذا مواصفات مختلفة كما وصفه صاحب السيرة الذاتية، فيذكر الكتاب: "إن لمنصب الوزير ميزتين وحيدتين. الأولى تتعلق "بالنطاط"، وهو شخص يجلس إلى جوار السائق وتنحصر مهمته فى القفز من السيارة قبل وقوفها لكى يفتح للوزير الباب. قال إن هذا النطاط مع ذلك سبب له مشكلة. فقد استهجن إسماعيل غانم بشدة أن تكون هذه كل مهمة الرجل فقرر أن يستفيد منه على أى نحو آخر. كانت زوجة الوزير دائمة الشكوى من أنها لا تستطيع الحصول على زبد، فخطر له أن يكلف النطاط بشرائه، فيوفر على زوجته عناء الوقوف فى طابور الجمعية. طلب الوزير إذن من النطاط أن يذهب ليبحث له عن زبد ثم صعد إلى مكتبه. فإذا بالتليفون يدق بعد ساعة فى مكتبه وإذا بالمتحدث مدير مكتب وزير التموين مستفسراً من وزير التعليم العالى "كم كيلو من الزبد بالضبط يريد؟". قال إن هناك ميزة أخرى لا يمكن التهوين من أمرها. ذلك أنه بجلوس الوزير فى قاعة اجتماعات مجلس الوزراء، وقبل أن يدخل رئيس الوزراء، كثيراً ما يأتى موظف إلى الوزير فينحنى هامساً فى أذنه ليخبره بآخر ما وصل إلى الجمعية التعاونية من سلع، للوزير الأولوية فى الحصول عليها، وكان آخر ما يذكره هو شحنة من البطاطين الصينية كانت قد أرسلت كجزء من معونة صينية لبعض المحتاجين فى مصر، فإذا بالموظف يسأله عما إذا كان الوزير يرغب فى إرسال بعضها إلى بيته".
إخوانى.. أخواتى
ترى كيف يختارونهم الآن؟!
أظن أن علينا أن ننتظر عهداً جديداً لنقرأ سيرة جديدة يتحدث فيها صاحبها عمن سرقوا بطاطين الزلزال!!!!

الخميس، ١٧ أبريل ٢٠٠٨

المحكمة العسكرية

عاجز حتى الآن عن وصف شعورى نحو أحكام المحاكمة الهزلية – والمسماة زوراً بالعسكرية..
فلا أدرى هل أنا فى حاجة لأكون أكثر غضباً؟ أم أكثر هدوءاً؟


هل تغييب رجل بحجم م. خيرت الشاطر – علماً ومكانة - عن الواقع المصرى، وحبسه خلف القضبان كل هذا السنين حدث عابر يتساوى مع كل أحداث الساحة الفوضوية المصرية؟


هل سجن عالم، وعبقرى فذ مثل د. محمد بشر حدث يتساوى مع رؤية رعاع الأمة، وناهبيها فى موقع المسئولية منها؟ وبالتالى فالأمر لا يحتاج إلى مزيد من الغضب.


هل اختفاء عالم كريم حنون، وداعٍ لطيف، وأب رؤوف مثل د. صلاح الدسوقى عن حياتى الشخصية، وعن حياة زوجه، وابنه، وتلامذته ما هو إلا منغص جديد من ضمن منغصات واقعنا المرير؟ فلا جديد إذن يستحق مزيداً من الغضب.


هل دموع زوج أ. حسن مالك أمام المحكمة على زوج مخطوف، ومال منهوب، وعمر مسلوب تستحق مزيداً من الغضب؟


مائة استفهام، واستفهام تدور فى ذهنى، وتلح على خاطرى، وتدعونى إلى حيادٍ عجيب فى المشاعر..
أشعر بهذا الحياد أن عمرى قد ازداد عشرين سنة أو يزيد؛ فأفتقد غضبة الشباب، وأبحث عن حكمة الشيوخ التى صقلتها السنون، والتجارب والخبرات، وتكرار مواقف الظلم.
كثيراً ما كنت أنصح من هم دون العشرين عمراً بألا يفقدوا حماسة الشباب، وفورته؛ فهما عنوان مرحلتهم العمرية، ودليل حيوية جماعتهم الدعوية.
وكنت على الجانب الآخر أطلب منهم تفهم مواقف الشيوخ؛ لأنها طبيعة الشيوخ، ودليل حكمة السنين، والتجارب والخبرات.
وكنت أؤكد لهم على أن تلاقى الحماسة مع الحكمة هو المُحرك الواعى لحركة الجماعة داخل المجتمع؛ فإن انتصرت الحماسة وحدها توقفت المسيرة، وإن انتصرت الحكمة وحدها ماتت الجماعة.
والآن أسأل نفسى: أين أنا من الحماسة، والحكمة؟


وفى نفس يوم الأحكام الجائرة، والحنق يملأ الصدور، وإحساس الظلم يهز الوجدان كنت مدعواً إلى حفل يقيمه طلاب الإخوان المسلمين لزملائهم من الفرقة الرابعة قبل تخرجهم من كليتى التى تخرجت منها منذ عشر سنين، وكان الحفل فى أحد النوادى المهنية على النيل فى قاهرة المعز.
كنت أعلم أن الحفل فرح، وأن الفرح هو واجب الوقت لهؤلاء؛ ولكنى سائلت نفسى قليلاً: هل هذا وقت فرح؟ أأفرح، وألهو، وأضحك وأمهات، وزوجات، وأبناء المظلومين يبكون غياب أحبابهم خلف قضبان الجلادين، والمتجبرين؟
أهذا وقت سرور، واحتفال وعلماء الأمة، وأنقياؤها يسجنون، ويحبسون؟
وكعادتى غلبتنى الحكمة، وقالت لى نفسى: بل هذا هو أبلغ رد على الأحكام؛ فحياتنا تسير، ودعوتنا تسير، ولن يوقفها بطش باطش، أو ظلم متكبر متجبر.
وحضرت الحفل، وتفاعلت معه بالضحك، والسرور، والسعادة لرؤية هؤلاء الشباب الغض النقى وهو يستعد لطرق أبواب الحياة من بابها الرئيس، ويمتلكون فى الوقت ذاته التفاؤل، والحماسة، والإقبال على الحياة.

إخوانى.. أخواتى
هل نحن فى حاجة لمزيد من الغضب؟
أم فى حاجة لمزيد من الحكمة؟

الثلاثاء، ١ أبريل ٢٠٠٨

ماذا علمتنى الحياة؟ مصر ما قبل الثورة

كان جدى – رحمه الله – كثيراً ما يكرر أن مصر قبل الثورة كانت أفضل حالاً من مصر بعد الثورة، وكان دائماً ما يقول أن الناس كانوا أكثر صدقاً رغم فقرهم، وأكثر أمانة رغم عوزهم.

كان هذا هو هو نفس الانطباع الذى خرجت به من سيرة الدكتور / جلال أمين الذاتية "ماذا علمتنى الحياة".
فحين تحدث عن ظروف بيته الذى نشأ فيه فيه قال: "لم ترث أمى قرشاً واحداً من أسرتها ولم يرث أبى شيئاً يذكر، ولكن كان لأبى دائماً دخل معقول من وظيفته، كمدرس أو قاض أو أستاذ فى الجامعة، بالإضافة إلى مكافآت عما ينشره من مقالات وكتب أو يشترك فيه من لجان، سمح له بشراء بيت من دور واحد فى مصر الجديدة، ثم ببناء دور آخر فوقه.
كانت الملامح الأساسية لهذا البيت، الذى عشنا فيه طوال الثلاثينات ومعظم الأربعينات، تتكرر فصولها فى معظم بيوت أقاربى وأصدقائى ومعارفى. حجرات وشرفات واسعة، وأسقف مرتفعة (إذا ما قورنت ببيوت الطبقة الوسطى اليوم) فى منزل يندر أن يزيد ارتفاعه على ثلاثة أدوار. لم يكن هناك إذن ما يحول دون وصول الهواء أو أشعة الشمس، كما كان هناك دائماً متسع للأطفال للعب والجرى، سواء داخل البيت أو فى حديقة صغيرة حول البيت، أو فى الشارع، إذن كان من الممكن أن تمر عليهم الساعات دون ان يعكر صفوهم مرور سيارة واحدة
".

كانت هذه حياة الطبقة المتوسطة كما أشار إليها كاتبنا الكبير متمثلة فى بيته، وبيت أقرانه.
كانت هناك إذن طبقة متوسطة تمثل صمام أمان للمجتمع، كانت هذه الطبقة تمثل معظم الموظفين، والحرفيين، والتجار..
وكان من بين هذه الطبقة مثقفو الأمة، وروادها فى كل الاتجاهات الفكرية، والسياسية، والاجتماعية..
وكانت هذه الطبقة تعيش عيشة كريمة تسمح لها بالإبداع، والنجاح، وحسن الإدارة..
ووجود هذه الطبقة كرمانة ميزان بين الفقراء، والأغنياء يسمح لأى مجتمع بالحياة، والنمو بصورة طبيعية، كما يسمح للمجتمع بأن يقوده فكرياً، واجتماعياً مبدعوه، ومفكروه.
كان ينتقل إلى هذه الطبقة المتوسطة كثير من الفقراء؛ بما أثبتوه من كفاءة، وما تمتعوا به من نبوغ وتفوق.
ترى أين تعيش الآن الطبقة المتوسطة (إن كانت موجودة أصلاً)؟
وترى ما حال النابهين من أمثال أحمد أمين (والد د. جلال أمين) فى زماننا الحالى؟

وفى صورة بديعة أخرى يصورها الكاتب كمقارنة بين رأس البر قبل الثورة، وبعدها يذكر: "لا بد أن كان لرأس البر سحر خاص للأطفال، فالبيوت ليست إلا عششاً مقامة على أرضيات من الخشب، والشوارع رملية غير مرصوفة فلا تسمح بمرور أى نوع من السيارات والدراجات، ومن ثم للأطفال أن يجروا ويلعبوا حول بيوتهم دون أن يخشى عليهم من شىء."
وعندما زار رأس البر مرة أخرى سنة 1957 قال: "كم كانت خيبة أملى. كانت العشش قد حل محل معظمها بيوت قبيحة مبنية بالطوب والحديد والأسمنت، وكان اكتظاظ شاطىء البحر وشاطىء النيل بالناس شديداً لدرجة كان لا بد أن تختفى معها أى مسحة من الجمال."

لم يكن هناك إذن فارق زمنى كبير بين الجمال، والقبح. كان الأمر لا يعدو سنوات تعد على الأصابع بين زيارة الطفل جلال أمين، وزيارته بعد ذلك وهو شاب؛ إلا أنها الفوضى التى بدأت تعم فى أركان هذا البلد بعد الثورة.
صحيح أن كثيراً من الفقراء المحرومين قد كانوا لا يزورون رأس البر فأصبحوا يزورونها؛ وهذا مما يحسب للثورة؛ ولكن هل كان حتماً أن يكون ذلك على حساب جمال المكان، وطبيعته!!
لم تكن مصر قبل الثورة جنة من جنان الأرض؛ بل إنها كانت مرتعاً لفساد علية القوم، وحاشية القصر الملكى؛ ولكن كان بها مقومات مجتمع حىّ.. يرفع من شأن نابهيه، ويعلى من شأن العلم.. مجتمع به حراك فكرى، وسياسى، واقتصادى، واجتماعى..

كانت بمصر وقتها مقومات تجعل منها دولة رائدة فى الشرق لو استغل ثوارها سمات هذا المجتمع الحى بعد قضائهم على بذرته الخبيثة.
ولكن جاءت الثورة، وقتلت هذا المجتمع الحى، وحولته إلى مجتمع عاطل، وجبان، ومتخاذل..
جاءت الثورة لتقضى على طبقة الأثرياء؛ فأنشات طبقة من الأثرياء الجدد.. أثرياء المال العام، و"الفهلوة"، والاستهلاك، وفى طريقها إلى ذلك قضت على الطبقة الوسطى، ونقلت مثقفيها، ومتعلميها إلى طبقة الفقراء..
لم يكن هذا بالطبع – وليد عقد من الزمان – ولكنه كان نتيجة طبيعية لأمراض اجتماعية نشأت فى رحم الثورة حين همشت المثقفين، وعطلت القانون، وأعلت من شأن العسكر..
وأترك للكاتب الكبير وصف بعضاً مما خلقته الثورة فى المجتمع: "كان المرء منا يخاف أن يتكلم فى السياسة فى حضور أى شخص غريب، فى سيارة تاكسى أو أمام زميل جديد فى الجامعة لم يتحقق بعد من ميوله السياسية، أو حتى أمام فراش الكلية الذى يحضر له القهوة والشاى، خشية أن يكون ممن استوظفتهم المخابرات أو المباحث العامة. أما التليفون فكنا واثقين من انه مراقب، ومن ثم كان من دواعى الحيطة عدم التفوه فى التليفون بالتعليق على أية شخصية سياسية مهمة أو إجراء مهم اتخذته الحكومة. وأما الخطابات فكان بعضها يأتى وقد تم فتحه وقراءته وأعيد لصقه بورقة كتب عليها (فتح بمعرفة الرقيب)".

سارت مصر من يومها على هذا الدرب الذى بدأته الثورة.. درب القبح، والفوضى، والعسكرة حتى أصبحت مصر 2008 كما نراها الآن..

الأربعاء، ٢٦ مارس ٢٠٠٨

جلال أمين: ماذا علمتنى الحياة


"منذ سنوات كثيرة، رأيت فيلماً بولندياً صامتاً لا يزيد طوله على عشر دقائق، ظلت قصته تعود إلى ذهنى من وقت لآخر، وعلى الأخص كلما رأيت أحداً من أهلى أو معارفى يصادف فى حياته ما لا قِبَل له برده أو التحكم فيه.
تبدأ القصة البسيطة بمنظر بحر واسع، يخرج منه رجلان يرتديان ملابسهما الكاملة، ويحملان معاً، كل منهما فى طرف، دولاباً عتيقاً ضخماً، يتكون من ثلاث ضلف، وعلى ضلفته الوسطى مرآة كبيرة. يسير الرجلان فى اتجاه الشاطئ وهما يحملان هذا الدولاب بمشقة كبيرة، حتى يصلا إلى البر فى حالة إعياء شديد، ثم يبدآن فى التجول فى أنحاء المدينة وهما لا يزالان يحملان الدولاب. فإذا أرادا ركوب الترام حاولا الصعود بالدولاب وسط زحام الركاب وصيحات الاحتجاج، وإذا أصابهما الجوع وأرادا دخول مطعم، حاولا دخول المطعم بالدولاب فيطردهما صاحب المكان.
لا يحتوى الفيلم إلا على تصوير محاولاتهما المستميتة فى الاستمرار فى الحياة وهما يحملان دولابهما الثقيل، إلى أن ينتهى بهما الأمر بالعودة من حيث أتيا، فيبلغان الشاطئ الذى رأيناه فى أول الفيلم، ثم يغيبان شيئاً فشيئاً فى البحر، حيث تغمرهما المياه وهما لا يزالان يحملان الدولاب.
منذ رأيت الفيلم وأنا أتصور حالى وحال كل من أعرف وكأن كلاً منا يحمل دولابه الثقيل يأتى معه إلى الدنيا ويقضى حياته حاملاً إياه دون أن تكون لديه أية فرصة للتخلص منه، ثم يموت وهو يحمله. على أنه دولاب غير مرئى، وقد نقضى حياتنا متظاهرين بعدم وجوده، أو محاولين إخفاءه، ولكنه قدر كل منا المحتوم الذى يحكم تصرفاتنا ومشاعرنا واختياراتنا أو ما نظن أنها اختياراتنا، فأنا لم أختر أبى وأمى أو نوع العائلة التى نشأت بها، أو عدد إخوتى أو موقعى بينهم، ولم أختر طولى أو قصرى، ولا درجة وسامتى أو دمامتى، أو مواطن القوة والضعف فى جسمى وعقلى. كل هذا على أن أحمله أينما ذهبت، وليس لدىّ أمل فى التخلص منه."


كانت هذه القصة البسيطة الحكيمة البليغة هى نهاية المقدمة التى كتبها الدكتور/ جلال أمين، أستاذ الاقتصاد، وابن الكاتب الكبير أحمد أمين، لمذكراته الشخصية، أو سيرته الذاتية والتى أسماها "ماذا علمتنى الحياة؟".

قرأت الكتاب كاملاً وشدنى كل مقطع فيه، بل وكل كلمة تـَنظـِم سطوره..
رأيت فى الكتاب فرصة للاستفادة من تجارب الآخرين الحياتية، والتى أحسب أننا - نحن الإسلاميين أو معظمنا على الأقل - نفتقدها بشدة..
نفتقدها مرتين.. مرة حين لا نطلع على كتابات الآخرين – أياً كانت أفكارهم أو مواقعهم السياسية والفكرية؛ لأننا منشغلون بأفكارنا نحن، ورؤانا نحن، وبالتالى فلا داعى لأن ننهل من معين نحسب ما به عطناً، أو أصاب ماءه ما لا يصح الوضوء به.
ونفتقدها ثانية حين يقصر الإسلاميون أنفسهم فى كتابة سيرهم الذاتية، ومفكراتهم الشخصية؛ وذلك خوفاً من الرياء، أو حذراً من تصادم قد لا يليق بالداعية أن يقع فيه حين يذكر رأيه فى حدث رآه، أو فى تصرف شخص أساء فيه.
فعلى حد علمى لم يكتب أحد من الإسلاميين – الحركيين أو المفكريين على حد سواء – مذكراته الكاملة سوى الشيخ/ القرضاوى فى "سيرة ومسيرة"، وقبله أ/ محمود عبد الحليم فى "الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ"


لذا فقد بهرنى الكتاب، وبهرنى صدق كاتبه، وصراحته الشديدة الناقدة لنفسه، وللمتعاملين معه فى مسيرة حياته، بل وحتى لوالديه – حتى لو اختلفت معه فى الرأى فى أحقيته فى نقد والديه علناً.
فهو يرى – وأتفق معه فى الرأى – صحة ما قاله كاتبه الأثير "جورج أورويل": "إن كتاباً فى السيرة الذاتية لا يمكن أن يصبح محلاً للثقة إلا إذا كشف بعض الأشياء التى تشين صاحبها".
إن هذا الكتاب فتح لى أبواباً واسعة لإدراك كم نحن منغلقون.. لا نرى إلا أنفسنا، ولا نسمع إلا أنفسنا، ولا نخاطب إلا أنفسنا..


علمت منه أننا ممن يتركون الحكمة، رغم أننا أحق الناس بها..
كان الكتاب بالنسبة لى نافذة واسعة اطلعت فيها على مصر التى لم نعرف، ولم نكن لنعرف إلا من خلال أعين من عاشوها، وعايشوا ساستها، وكتابها، ومفكريها، وأدباءها..
تجول الرجل بى فى مصر ما قبل الثورة من خلال زاوية صباه، وأعين والده الكاتب الكبير، والمفكر النابه أحمد أمين..


رأيت بعينيه واقع التعليم فى مصر على مر سبعين عاماً، وكيف كان التعليم، ثم أين ذهب..
ورأيت مدى تغير المصريين، وأخلاقهم على مدار ثلاثة أجيال متعاقبة، اختلفت فيما بينها القيم، والأولويات، بل وأهداف الحياة.


شاهدت بين كلمات سطوره كم الهوة التى تفصل مثقفى مصر عن رافدنا الإسلامى.. فعرفت ما يشكل وجدانهم؟ وما روافدهم التى يتغذون منها؟ وعرفت أننا حين نتحاور معهم فإننا نتحاور حوار الطرشان؛ فهم لا يسمعون إلا أنفسهم، ونحن لا نخاطب إلا أنفسنا؛ لذا فإن الحوار – دائماً – ما يفشل، أو على الأقل – لا يجنى أى ثمار.
فالرجل – وبصراحته المعهودة – لم يذكر مرة أنه قد شاهد والده – والموصوف بالمفكر الإسلامى – وهو يصلى، أو حتى وهو يصوم.
والرجل أيضاً يذكر الكتب التى كان حريصاً على قرائتها، أو النهل منها، أو مراجعه الكبرى التى يحسب أن الخلاص فى قرائتها، ولم يكن بينها كتاباً واحداً ذا صلة بمرجعيتنا الإسلامية.
كانت المعرفة غربية، والحكمة غربية، والثقافة غربية..
وشعرت كم نحن مقصرون حين لم نصل لهؤلاء، ولم نقترب منهم، أو من حكمتهم التى شعرت بها فى كلمات هذا الرجل، وعلمه الغزير.


الكتاب فى مجمله رائع، بل ومدهش.. تنهل الحكمة من دفتيه رقراقة عذبة – حتى ولو اختلفت مع مكونات بعض هذه الحكمة.
وسأحاول أن أعلق على هذا الكتاب فى مجموعة من التدوينات القادمة؛ لكى أنقل لكم بعضاً من الحكمة التى حملتها هذه السيرة لصاحبها الرائع د. جلال أمين، ومعلقاً عليها ببعض التعليقات التى قد تفيدنى، وتفيد غيرى بإذن الله.

الاثنين، ٢٤ مارس ٢٠٠٨

ساويرس الدحلانى

لم أكن من المتحمسين للحملة التى تم الدعوة لها على شبكة المعلومات الدولية "الانترنت" لمقاطعة شركة موبينيل المملوكة للملياردير المصرى "نجيب ساويرس" بسبب هجومه على الحجاب، ووصفه له بأنه زى "وهَّابى"، وأنه لم يكن يوماً زياً من أزياء المصريين.

لم يكن عدم تحمسى وقتها تأييداً لساويرس، أو حتى تعاطفاً معه؛ بل إن تصريحه وقتها قد أصابنى بغضب شديد؛ بل وأشعرنى أن هذا الرجل ذو أجندة خاصة، وأنه يشترك فى هذه الأجندة - إن لم يكن منفذاً لها - مع جهات أخرى قد تكون مجهولة، أو معلومة؛ ولكن لا دليل مادى عليها.
كان عدم تحمسى نابعاً وقتها من خوفى من أن تكون الطائفية هى الأرضية التى تتحرك من خلالها الدعوة؛ فأنا ما زلت أرفض فكرة البيع والشراء على أرضية الطائفية، بل أشعر أن الشراء من التاجر المسيحى كما المسلم يشعره بالأمان وسط المسلمين؛ وبالتالى يزداد ارتباطه بهذا البلد، وأهله؛ وبالتالى ابتعاده عن كره المسلمين كما يريد أعداء مصرنا الحبيبة؛ كما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان حريصاً على ارتباط أهل المدينة من غير المسلمين بالمدينة؛ لذا فإنه لم يستنكف عن رهن درعه عند يهودى قبل موته.

كنت أسمع منذ زمن - ليس بالقريب - عن أسباب للتضخم المفاجئ لشركات عائلة "ساويرس"، وعن احتكارها مجالات بعينها لا يستطيع أحد أن يقترب منها..

كنت أسمع عن ارتباط هذه الشركات ببعض الجهات الأجنبية المانحة، أو الأمنية، أو العسكرية فى مشروعاتها الداخلية فى بلادنا العربية، بل والإسلامية.. وكنت أسمع عن أن هذه الأعمال تسند بالأمر المباشر لشركات "أوراسكوم" للمقاولات، أو للاتصالات، أو للمعلومات..


كانت هذه الثقة من الجهات الأجنبية أمراً يستحق التوقف؛ ولكنه – وللأسف – كان دون دليل مادى واضح!!
وكانت المفاجأة فى الأسبوع الماضى حين غضب الملياردير "نجيب ساويرس" غضباً شديداً من
مقالة نشرت فى جريدة "المصرى اليوم" للكاتب "سيد على" وصف فيها المدعو "محمد دحلان" بأنه على ارتباط بالمخابرات الأمريكية وأجندتها الخاصة فى المنطقة، وداعياً إلى عدم استقباله، وأمثاله فى مصر؛ لأن حذاء أى مسئول مصرى – على حد قول سيد على – أشرف من قامة دحلان، وأمثاله..


انفعل الملياردير "نجيب ساويرس" وبعث
بخطاب شديد اللهجة للجريدة الليبرالية - التى يعد أحد مالكيها - منتقداً فيها وصف صديقه "محمد دحلان" بهذه الأوصاف، واعتبره من المناضلين الذين تتعمد إسرائيل تشويههم، وتشويه صورتهم فى المنطقة؛ وأننا – أى العرب – نسير وراء هذه الادعاءات دون دليل، ودون اعتبار للتضحيات التى قدمها الرجل – على حد وصفه!!!
واعتمد الملياردير "ساويرس" فى التدليل على وطنية "دحلان" بصداقتهما التى بدأت منذ عشر سنوات كاملة؛ خـَبـِر فيها الرجلَ، ووطنيتـَه.
ولم ينس الملياردير "ساويرس" أن يشير إلى أن حماس عميلة لسوريا، وإيران، وأنها جوَّعت شعبها، وأضاعته على عكس المناضل الكبير "محمد دحلان"!!!

إذن لقد انكشف المستور الذى ظل الملياردير "ساويرس" مُخفياً له طوال الفترة الماضية..
لقد كشف الرجل فى لحظة غضب عن صداقته بالمدعو "محمد دحلان" رجل الجهات الأجنبية التى تسند أعمالها بالأمر المباشر إلى شركاته فى المنطقة..
"ساويرس"، و"دحلان" إذن وجهان لعملة واحدة..
الاقتصاد الاستهلاكى المُوجَّه، وضرب المقاومة اجتمعا فى بوتقة واحدة، وتصادقا على أرضية واحدة؛ بل وينفذان أجندة واحدة..
تسرع ساويرس ونزع عن نفسه جزءً من ورقة التوت التى يستتر بها؛ فشاهدناه بصفات "الدحلانيين" الوطنيين!!!


كان ساويرس – ولا يزال – رجلاً غامضاَ بأمواله، وأعماله الموجودة فى مصر، والعراق، ونيجيريا، وبنجلاديش وغيرها..
لم نسمع عنه أبداً فى أعمال خيرية فى مصر – رغم سماعنا عن تبرعاته السرية الضخمة لطائفة بعينها فى مصر.
لم نسمع عنه – رغم ملياراته العديدة – متبرعاً لأهل فلسطين، ولم نسمع عنه متبرعاً لضحايا العبارة، ولا حرقى القطارات..
لم نسمع عنه بانياً أو متبرعاً لبناء مستشفى، أو مدرسة فى مصر..


لقد اعترف دحلان فى لحظة تجلٍ مع الإعلامى "عمرو أديب" بأنه كان يتلقى راتباً شهرياً وهو فى تونس قدره "خمسة آلاف دولار" تقديراً لتضحياته، ووطنيته، وأن هذه الخمسة آلاف دولار الشهرية هى التى كونت ثروته التى لا يعلم أحد قدرها حتى الآن.
ترى هل سيعترف صديقه "ساويرس" يوماً بالكيفية التى بدأ بها أعماله، ومشروعاته..
فلنترك للتاريخ الإجابة لنا عن هذا السؤال؛ لأن "ساويرس" لن يجيب عنه أبداً فى الأمد المنظور..
وحتى ذلك الحين؛ فأنا أرفض أن أساهم فى تضخم ثروة "دحلانى" آخر فى مصر.