الثلاثاء، ٢٧ مارس ٢٠١٢

اللجنة التأسيسية نموذجاً لأخطاء التيار الإسلامي

تنص المادة 60 من الإعلان الدستوري والتي كانت من المواد المستفتى عليها مباشرة من الشعب على أن: "يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسي شعب وشورى في اجتماع مشترك بدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال ستة أشهر من انتخابهم لانتخاب جمعية تأسيسية من مائة عضو تتولى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد في موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها ويُعرض المشروع ، خلال خمسة عشر يوماً من إعداده على الشعب لاستفتائه في شأنه ويعمل بالدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء ."

هذه المادة أعطت المجتمع كله بقيادة الأعضاء المنتتخبين مهلة سنة كاملة لإقرار دستور جديد للبلاد، وقسمت هذه السنة إلى ستة أشهر لتشكيل لجنة الدستور نفسها، وستة أشهر أخرى لصياغة الدستور المقترح للاستفتاء.

كان الهدف من هاتين المدتين هو عمل حوار مجتمعي حقيقي، والتوصل لتوافق طبيعي يرتضيه الجميع حول أسماء المرشحين لهذه المهمة الجليلة أولاً، ثم ليمتد هذا الحوار مع اللجنة المشكلة للوصول إلى دستور معبر عن الأمة المصرية بكافة أطيافها، ومحافظ على هويتها، ومقر للعدالة الاجتماعية بين كافة أبنائها، ومدافع عن الحريات العامة لمواطنيها، ومقيم لتوازن بين سلطات دولتها تامة الاستقلال في إرادتها الوطنية.

كان من المنتظر من الأعضاء المنتخبين في مجلسي الشعب والشورى أن يقدموا للأمة حالة مثالية - هم الأحق بتقديمها - لتكون نموذجا مغايرا لنماذج اللجان المعينة من الأسرة الحاكمة قبل الخمسينات، ومن العسكريين قبل ثورة يناير.

كما أن فلسفة هذه التعديلات كانت قائمة في الأساس - كما أكد على ذلك المستشار البشري أكثر من مرة - على صياغة الدستور في ظل سلطة تشريعية (برلمان) وتنفيذية (رئيس وحكومة) منتخبين حتى يبتعد العسكر بقوتهم ونفوذهم عن التأثير في هذه اللجنة، وفي الحوار المجتمعي الدائر حول عملها.

ثم جرت أمور مجهلة بين قوى متداخلة، وصدرت تصريحات متضاربة تسحب أولاً فكرة الرئيس قبل الدستور، بل وتلح على عدم قانونيتها، أو وجاهتها، ثم تحررت هذه النقطة قليلاً تحت الضغط الثوري المطالب بسرعة إجراء انتخابات الرئاسة.

عند ذلك جرت أمور أخرى أكثر تجهيلاً بين تلك القوى، بحتمية انتهاء صياغة الدستور قبل، أو مع انتهاء انتخابات الرئاسة، وهو ما يعني عملياً أن يتم سلق الدستور في مدة تزيد قليلاً عن الشهرين بما يشمله ذلك من تشكيل للجنة التأسيسية، ثم صياغة الدستور، ثم الاستفتاء عليه.

وعند ذلك مربط الفرس، ولب المشكلة التي أدت إلى هذه اللجنة المختلف عليها القابلة للانفجار، والتي قد تؤدي إلى دستور أكثر عجباً وقابل للانهيار.

لقد ألزمت هذه القوى نفسها بالانتهاء من تشكيل اللجنة التأسيسية لسبب مجهول (أو هكذا يبدو) خلال أسبوعين اثنين، فحدث ارتباك، أدى إلى الأخطاء التالية:

1- لم يتم فتح أي حوار مجتمعي أو سياسي حول طريقة تشكيل اللجنة لتكون معبرة بحق عن كافة أطياف الأمة.

2- لم توضع أي معايير لاختيار أعضاء اللجنة، سواء تلك المتعلقة بالكفاءة، أو تلك المتعلقة بنسب التمثيل للنقابات، والهيئات، والمؤسسات، والفئات، والأطياف المشكلة للتنوع المصري الطبيعي، والمهني، والعرقي، والجغرافي، والديني.

3- لم تقم القوى المجتمعية بعرض مقترحاتها لتشكيل اللجنة على الرأي العام، وعلى البرلمان، مصحوبة بأسماء مقترحة بسير ذاتية وطنية ومهنية تشفع بانضمامها لتلك الكوكبة التي تعد لدستور مصر الحديثة.

4- تعاملت القوى السياسية بمنطق النسب الوزنية للقوى السياسية متناسين أن أطياف المجتمع ليست سياسية بالضرورة، وأن ممثلي العمال، والنقابات، والجامعات، والطوائف ليسوا سياسيين بالأساس؛ لذا فإننا صرنا نسمع نكتة أن الإسلاميين لا يمثلون إلا 48 % من أعضاء اللجنة المشكلة، وكأن القضاة، والعمال، والجامعيين الآخرين على طرف نقيض من مشروع القوى الإسلامية!

5- تعامل مجلس الشعب مع هذا الأمر الجلل كأنه "مأمورية" محددة الزمن؛ فرفض رئيسه كل محاولات النقاش حول الأسماء المقترحة من الأحزاب، والنقابات، والجامعات، والاتحادات، والهيئات، وغيرها والتي فاقت الألف وخمسمائة اسم؛ فصار لزاماً على النواب اختيار 100 اسم هكذا دفعة واحدة، دون معايير كفاءة، أو تمثيل نسبي، وصار الحل في الورقة المجهزة مسبقاً والتي ينقل منها العضو الأسماء التي اتفق عليها حزبه مع بعض الأحزاب الأخرى!

6- ثم خرجت نتيجة التصويت الموَجّه بهذه الصورة المرقعة التي أتت ببعض الشخصيات التي لا حضور لها في الواقع المجتمعي المصري، وأغفلت آخرين لهم حضور طاغ منذ الثورة، وحتى الآن.

7- بسبب غياب المعايير نسيت اللجنة، أو تناست وضع ممثلين رسميين مرشحين من الكنيسة والأزهر، وكذلك نقيب الأطباء.

8- تم اختيار أفراد ممثلين لقطاعات معينة بناء على معايير سياسية انتمائية، مثل طالب المنصورة الإخواني، ومثل رئيسي جامعة الإسكندرية والمنيا الإخوانيين، ومثل المدرسة المساعدة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بنت عضو مكتب إرشاد الإخوان التي قدمت على أساتذتها في ذات الكلية ذوي الباع الطويل في الدراسات السياسية والعلمية، وكذلك الحركية الثورية، ومثل اختيار أستاذ حركي للاقتصاد الإسلامي، وأيضا مصرفي إسلامي ثان، والأمثلة تطول.

9- هناك إغفال متعمد للقوى الثورية الشبابية سواء الممثلة في البرلمان، أو خارج البرلمان، بحيث لم يتم اختيار إلا الشاب البطل أحمد حرارة، ورغم رمزيته بالغة الدلالة والضرورة، إلا أنه لم يكن من القيادات الشبابية المعروفة قبل إصابته في عينيه!

الغريب أن كل هذه الأخطاء لا يراها الإسلاميون، ويرون أن الاعتراض على تشكيل اللجنة ما هو إلا مناكفات علمانية صبيانية من قوى كارهة للإسلاميين، ومتواطئة مع العسكر ضد مصلحة الأمة!

أما الأكثر غرابة فإن هذه الأخطاء جاءت في ذات الوقت التي تحتاج فيه القوى الإسلامية لتكاتف كافة القوى الوطنية معها في مواجهة مباشرة مع العسكر قد (!) تنتقل من مرحلة البيانات إلى مرحلة الفعل الإقصائي الحقيقي من خلال أحكام قانونية جاهزة!

الحل في رأيي يكمن في تطبيق خريطة الطريق الشعبية التي طالما تغنى الإسلاميون بإلزاميتها، وهي أن يصاغ الدستور تحت مظلة منتخبة، وأن يجرى حوار مجتمعي كامل حول الدستور من خلال تشكيل لجنة المائة، ثم من خلال صياغة الدستور ذاته، وليأخذ دستور البلاد حقه الكامل في النقاش والحوار دون ضغط من بيادة، أو زناد!!، ودون حوارات مجهلة من أطراف تريدها أن تبقى مجهلة!

أظن أن هذه هي آخر فرص الإسلاميين في قلب الطاولة على العسكر، وإخضاعهم التام للسلطات المنتخبة، وليعيدوا النظر في الأمور المجهلة التي يريدوننا أن نسير في ركابها صامتين مدافعين مبررين.

والله المستعان على ما تصفون.

الأحد، ٢٥ مارس ٢٠١٢

مشروع للوطن

أظن أن الكثرة الغالبة من المصريين تشعر بحيرة شديدة، وأزمة بالغة ما بعد ثورة 25 يناير؛ فما بين طموح علا سقفه بعد التنحي، إلى إحباط أسرف في اليأس بعد حادث بورسعيد؛ عاش المصريون عامهم الأخير.

فرغم سقف الحرية العالي، ورغم تنوع الأفكار، والاتجاهات السياسية؛ إلا أني أزعم أن المصريين لا زالوا يشعرون بغربة شديدة مع متصدري المشهد العام؛ فأرقام المنتسبين للأحزاب الجديدة وضآلتها، وحنق المصريين من ضعف أداء من انتخبوهم  تؤكد أن المصريين لا زالوا يراقبون من بعيد، قد يفوضون أحداً لتلبية مطالبهم في مرحلة ما، لكنهم لم يندمجوا معه، ولم يشعروا بأنه منهم، وأنهم منه.

القوى السياسية التقليدية المصرية الحالية لم تستطع مجتمعة أن تجمع المصريين حول حدث كبير، كما لم تستطع من قبل أن تدعوها لثورة، أو أن تحجمهم عنها، بل على العكس فإن هذه القوى كانت تلحق بالتحركات الشعبية العادية، وتنضم إليها تابعة لا قائدة، والمتابع لتطورات ثورة 25 يناير يدرك أن القوى السياسية التي التحقت بركب الحوارات السياسية مع عمر سليمان، ما ألجمها إلا الخوف من الشعب الذي لم يستطيعوا أن يقودوه إلى الثورة، كما لم يستطيعوا أن يقنعوه بالاكتفاء بلمام المطالب.

وأداء القوى السياسية التقليدية مع سيريالية المشهد المصري طوال العام الماضي يؤكد على أنها جزء من المشكلة، وأنها لم تكن أبداً - وأظنها لن تكون – جزء من الحل؛ لأنها تصر على أسلوبها القديم – الذي اضطرت لتغييره جزئياً أثناء جولة الثورة الأولى، والذي ينحصر في تقديم أولوياتها الخاصة على أولويات الوطن؛ ففي حين ظهر هؤلاء وانتفضوا في قضايا الدستور أولاً، أو الانتخابات أولاً، وقبلها معركة هوية الدولة، أو معركة نسبة الثلث والثلثين في مجلس الشعب، إلا أنهم كانوا وحيدين في تلك المعارك التي لم تجتذب أحداً إلا الأتباع، والمريدين؛ بما يؤكد أنهم ما زالوا بعيدين عن هذا الشعب، وعن أحلامه، وطموحاته.

إذن، مصر في حاجة إلى مشروع جديد يجذب إليه الناس دون أن يصطدم بهويتهم الوطنية، ويشركهم في تحقيق أحلامهم لا أن يطلب منهم تفويضاً بتحقيقها، ويتعامل معهم بشفافية لا باستغفال أو استهتار.

هذا المشروع الذي يرى مصر من خلال أهلها وناسها لا من خلال نخبتها وساستها، ومن خلال تيارها الأساسي لا من خلال أحزابها، وحركاتها السياسية أصبح من قبيل الواجب الذي لا يحتمل تأخيراً، وصار الأمل الذي يبعث الحياة في في الأرواح.

يتبقى أن مواصفات هذا التيار الجديد أو المشروع الوطني الجامع في حاجة إلى التبلور، والتجسد في كيان على الأرض حتى لا يظل فكرة في العقول، ومشاعر في القلوب، وحتى لا يظل الناس حبيسي ساحات الصراع التي سئموا منها، وما شعروا يوما بالانتماء إليها.

مصر والمصريون لا يعيشون معركة هوية؛ فهويتهم محسومة منذ أمد بعيد، والصراع موجود في مخيلة مشعليه فقط..

مصر والمصريون يريدون إرادة وطنية مستقلة حقيقية لا تخضع لهيمنة أجنبية، ولا لاحتلال وطني.. إرادة تجعل مصر رائدة لا خانعة، وقائدة لا تابعة.. إرادة تعيد عزتهم الوطنية، وكرامتهم القومية، كي يبذلوا في سبيلها الغالي والنفيس.

مصر والمصريون يبحثون عن عدالة اجتماعية، وإنسانية تحفظ كرامتهم، وتضمن المساواة بينهم دون تمييز بسبب نفوذ، أو جنس، أو عرق، أو دين.

مصر والمصريون لا يبحثون عن شعارات يلقيها ساسة محترفون، ولا أصحاب وعود يلقونها وهم إليه مستمعون.. هم في حاجة إلى من يحترمهم، لا من يستعلي عليهم.. في حاجة إلى من يصارحهم بالآلام والأعمال، لا من يرميهم بالجهل، ويمن عليهم بالأفعال.. في حاجة إلى من يشركهم في البناء، لا من يرمي إليهم بالصدقة.

مصر في حاجة إلى مشروع جديد.. فهل صار قريباً، وهل من مشمر؟!