الثلاثاء، ٢٢ ديسمبر ٢٠٠٩

من معالم الحق

“إن التجارب التي بلوتها في الأيام الأواخر ردت إلىّ الصواب فيما يمس تقدير الناس وتقويم منازلهم واكتشاف خباياهم…

عرفت لماذا أحس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن الرجال قليل، وأن نسبتهم فيمن ترى لا تكاد تبلغ الواحد في المائة؛ ولذلك قال: {الناس كإبل مائة لا تجد فيهم راحلة}.

أجل. إن الذين يُعوَّل عليهم في اقتحام الصعاب وتحطيم العقبات، وإدراك الغايات أندر – إلى حد بعيد – مما يفرضه حسن الظن وتوقع الخير.

وما أحكم قول الله عز وجل: ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ))…

وإلى جانب قصور الهمم ووهن المناكب وضعف الإدراك وما إلى ذلك من رذائل العجز المبعثرة بين العامة والهمل، تجد رذيلة أخرى إذا لحقت بالأقوياء شانتهم وحطمتهم، وهي سوء النية، أو بتعبير أدق، غش النية.

فإن القصد المدخول يجعل الرجل يأتي عمل الأخيار – وهو بضميره بعيد عنهم – فيخرج منه ضعيفاً لا يصل إلى هدفه، أو منحرفاً لا ينتهي إلى موضعه.

ثم إن صاحب هذا العمل محسوب على قوى الإيمان والإخلاص، في حين أنه دسيسة مقحمة فيها، أو هو في الحقيقة جرثومة تعمل ضدها وتثير داخل كيانها العلل…

ولم أعرف نفاسة قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): {إنما الأعمال بالنيات} حتى خالطتُ المئات والألوف فوجدتُ في سيرتها الأعاجيب.

طالما بحثت عن الإخلاص المحض لله ولرسوله لآنس به وأستمتع، أو لألوذ به وأستجير، فكانت سوءات الهوى المستور تفجؤني فتردني محزوناً لا ألوي على شيء…!

هناك ناس فاتهم من حظوظ الدنيا ما يكسبهم الوجاهة المنشودة، فالتحقوا بميدان الدعوة إلى الله يرجون فيه العوض الذي فقدوه، فتحول الميدان الطاهر بهم إلى مضمار يتهارش فيه فرسان الكلام وطلاب الظهور وعشاق الرياسة.

وانتقلت موازين الحياة الدنيا وتقاليدها ومؤامراتها وأساليبها تبعاً لذلك إلى ميدان الدعوة فماذا تنتظر من هذا الخلط إلا أن تقع فتنة في الأرض وفساد كبير؟

لقد خلصتُ من تجارب هذه الأيام التي مرت بي إلى أن العمل للإسلام لا يُقبل إلا ممن يعمل به. وأن الذين يفشلون في إقامة أمر الله بينهم أعجز من أن يقيموه بين الناس؛ وأن الله لا يُمكِّن لأمة باسمه إلا إذا نضجت في هذه الأمة عناصر الخير وربت منابع البر، حتى إذا ملكت نضحت على العالمين من طبيعتها العالية، فأشاعت الرحمة والعدل، وعلَّمت الطاعة والتقوى، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر! وذلك مصداق قوله سبحانه ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)).

إن الإيمان الصحيح يجعل نفس المسلم تستجيب لدواعي الخير المختلفة كلما أهابت بها. فهو في السلم والحرب، في الصحة والمرض، في الأمن والروع، في الخصب والجدب، في كل حال يقدرها الله له، يواجهها بما يفرض اليقين عليه، لا ينكص ولا يزيغ…!

يصبر في الضراء ويشكر في السراء، ويكرم عند النفقة ويقدم عند الروع، ويقيم الفرائض الموقوتة ويهجر المعاصي المحرمة، ويبغض المبطلين ويشغب على ضلالهم، ويحب المصلحين ويشد أزرهم..!

ذاك شأن المسلم. إن الخضوع لأمر الله والمبادرة إلى إنفاذه استعداد كامن دائم فيه. ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)).

وقد تلت هذه الآية آيات أخرى تُفصِّل حقيقة الطاعة المطلوبة، وتبين أن مشاعر الخضوع لله، المستكنَّ في نفس المسلم، موصولة لا تنقطع، متماسكة لا تنفصم. وأن الزعم المجرد عن العمل لا قيمة له في حقيقة التقوى.

هب رجلاً أعجبه دفء الفراش ساعة الفجر وآثر لذة النوم عل غيرها من ذكر وقربى، أتحسب ذلك يقدر على جهاد خشن في ميدان غليظ؟

هب رجلاً أغراه فتون الفاحشة فتلوث بها في أيام الرخاء والسعة، أتراه يطبق مرضاة الله في الانخلاع عن الدنيا لو طُلب إليه أن يفتدي أمته بنفسه يوماً ما؟

إن الرجال الذين يسيئون في القليل لا ينبغي تصديقهم إذا أقسموا في الكثير. وهذا ما بدأت الآيات الكريمة تُفيض فيه ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)).

نعم، طاعة معروفة! إن المتكاسلين في الصلاة، الباخلين بالزكاة لا يقبل منهم حلف على الفداء والتضحية.

إن الناكلين عن خدمة الحق بكلمة هادئة لا يحلفون على خدمته ببذل الدم.

طاعة معروفة.

ما أحز هذه الكلمة في جلود الخادعين المخدوعين، الذين يظنون مِحالَهم (مكرهم) منطلياً على الله…

ثم شرعت الآيات تجر أولئك إلى صراط الله الذي يزعمون أنهم أوغلوا فيه وهم لمَّا يهتدوا إلى مطالعه ((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ …)).

والطاعة المعنية هنا قوامها تصحيح العقيدة وتطهير القلب وإدامة الصلاح ولزوم التقوى.

وتجلية هذه المعاني يجيء في إبَّانه. فإن الآيات نزلت في المدينة. والنبي الكريم يكافح قوى الشرك ويرسي قواعد الدولة التي يريد بناءها.

وفي هذه الظروف يُقبل المغامرون من طلاب الدنيا ليشاركوا في الجهاد طلباً للغنيمة. وقد يتطلعون إلى الحكم رغبة في الإمارة لا إقامة لدين الله. فتعليماً لهؤلاء اطَّردت الآيات تنذر وتبشر، وتعد بالنصر والتمكين الطائعين المخلصين وحدهم.

((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا …)).

لكن ما شرط ذلك؟ وما مقدماته الصحيحة؟

((يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا …))

((وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))

وعادت الآيات تكرر أوامر الخير وأسباب الفلاح ((وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)).

وهذه مدارج الفضل والسناء. أي مجتمع تـَهِي فيه عُرى الأخلاق، وتضعف فيه مقومات النفوس الكبيرة، هيهات أن يوفق إلى تأسيس دولة مكينة أو إقامة حكم رشيد…

إن النفوس الدنيا لا يمكنها أن تقيم أحكام السماء، ولا تستطيع – وهي مُخلِدة إلى الأرض أن تستجيب لتعاليم الوحي، او تستقيم مع جوّه النقي الطهور.

أرأيت امرأً خليعاً يشرع دساتير الأدب ويطبقها، أرأيت امرأً خوَّاراَ يشرع دساتير الكفاح ويؤججها؟

إن ينابيع الخير التي أخصبت بها الحياة وازدانت.. لم تنبجس من نفوس متحجرة، بل فارت بالري العذب من نفوس مفعمة بالكمال، فياضة بالبر والسكينة والجمال.

وغيوم الشر التي لوثت الآفاق وآذت البلاد والعباد لم تنفخها أنفاس لاهثة يقطعها الإعياء والوجل، بل عصفت بها نفوس لها في الحياة فعل الأعاصير المجتاحة كانت قوتها في الخير هي السبب الأول في اندحار الشر أمامها…

والنفوس التي انحصرت في أهوائها الصغيرة لا تفقه الدين، ولو فقهت ما أصلحت به شيئاً فضلاً عن أن تصلح هي به…

إن الحقيقة الأولى في الإسلام زكاة النفوس وسناؤها، وفقدان هذه الحقيقة فقدان الأصل الذي لا يسد مسده عوض، ولا يغني مكانه صلاة ولا صيام ولا جهاد ولا قيام.. بل فقدان هذا الأصل يجعل العبادات التي يأتيها البعض نوعاً من الفساد الملفوف، فإن النيات المدخولة والقلوب الحالكة لا يصلح معها عمل أبداً.

إن الله أمر الناس أن يزكوا أنفسهم وأن يزكوا بيئتهم، ومن ثم يكون جهادهم العام في ترقية الجماعة جزءاً من جهادهم الخاص في تهذيب غرائزهم وتقويم مسالكهم..

فإذا رأيت رجلاً يشتغل بجهاد الناس وهو مذهول عن جهاد نفسه، فاعلم أنه خطاف يريد الاشتغال بالسلب والنهب تحت ستار الدين.

إن تقوى الله عز وجل لُباب الدين وسياج نُظُمه الدقيقة والجليلة، ورباط تعاليمه في المجتمع والدولة. ولو أفلحنا في إقامة هيكل كبير يمثل شرائع الله كلها، وتبرز فيه صور الإسلام المعهودة والمنشودة، ثم حفت بهذا الهيكل نفوس خلت من الله، وضمائر لا تحسن رقابته ما كنا بهذا كله قد أقمنا إسلاماً ولا خدمنا إيماناً.

ولسنا ننكر قيمة القانون في حراسة ظاهر الحياة، ولكننا ننكر أن يكون للقانون أثر يذكر في موازين الخير والأمانة والنهوض والوفاء وحسن التقدير وسلامة القصد.

بل إن القوانين أعجز من أن تحاكم الإيمان والنفاق والرياء والإخلاص.

وهذه لها ما لها في قيادة الجماعات إلى الغي أو الرشد..

في عصرنا هذا نُظم القضاء، ورُتبت محاكمه، وُوزعت أعباء الدفاع والاتهام والموازنة والتمحيص على رجاله، وهُيئت الفرص لتدارك الخطأ، واتسعت ضروب التقاضي فأمكنت محاكمة الدول والفرد جميعاً. بيد أن هذه الوسائل العديدة لتوفير العدالة وإشاعة السكينة لا تجدي شيئاً إذا التاثت النفس الإنسانية وأضلها الهوى، فإن النفوس المجرحة لا تمسك الحق إلا كما تمسك الماءَ الغرابيل.

ولذلك يقول الله لداود – وهو نبي وحاكم:

((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)).

وكل مُستخلَف في الأرض يكون قربه أو بعده من الله على قدر بصره بالحق وانصياعه له وأخذه نفسه والناس به.

ونحن لو تركنا الهوى يقيم حدود الله لقُطع المسروق وتُرك السارق وقُدِّم المفلوك وأُخِّر الماجد، وأعطي حيث يجب أن يُمنع وخُفض حيث يجب أن يُرفع.

أفتحسب ذلك ديناً، أم ذلك هو الفساد المبين؟

إن أولى الناس بالله من حكَّموا الله في أنفسهم، وخضعوا لدينه في طواياهم، وعاشوا له في شئونهم التي لا يراها إلا هو – جل اسمه – قبل أن يتظاهروا بالعيش له في كل زحام، والغضب له في كل خصام.

هبك فتحت المصحف فوجدت فيه قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)).

وقوله تعالى أيضاً: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى …)).

إنك – كأي مسلم – مطالب باحترام النداءين، وإجابة الأمرين، على أن في مقدورك هذه الساعة قبل غيرها أن تقيم العدل بين من تحب ومن تكره ولو بكلمة، أما إنفاذ القصاص الواجب فقد تقيمه غداً إن عجزت عنه اليوم فهل آمنك على هذا الإنفاذ المنشود لو رأيتك تهدر النص الأول، وتجحد كلمة حق تُقِر بها العدالة وتقوم مخلصاً لله رب العالمين!

لا يا صاحبي.. إن أولى الناس بالله من يقيم في جوانب نفسه سلطان الحق، ويهزم نوازع الهوى، فإذا أذنت له الأقدار بامتداد كان البر بعباد الله أول ما ينتظر منه، وكان الجور عن الطريق آخر ما يرمى به..

من خمسة عشر عاماً وهذا القلم يكتب للإسلام يشرح نظامه، ويبرز أحكامه، ويغري الناس بالأخذ به والدخول فيه، ومُذ حُلَّت عرى الحكم الإسلامي في عصرنا، وسقطت دولته تطلع المؤمنون إلى يوم أغر يعلو فيه لواء الدين، وتسود شريعة الله.

وأى مسلم لا يداعب نفسه هذا الأمل الحلو؟ وأي مسلم لا يعمل له وعلى لسانه قول الشاعر:

    مُنىً إن تكن حقاً تكن أعذب المنى    وإلا فقد عشنا بها زمنا رغداً

لكن من يقيم هذا الحكم المرغوب؟ وما الأدوات التي تُمكِّن له؟ إن الدولة المسلمة لن تجيء إلا ثمرة أمة مسلمة، وإذا صدقنا أن الوثنيين يقيمون حكماً للتوحيد صدقنا أن يقيم الدُّعَّار حكماً للفضيلة، وأن يقيم المهازيل نظاماً للرجولة، وأن يصنع العبيد منهاجاً للسيادة..

إن أول ما يُنتظر في جماعة تبغي الحكم بما أنزل الله أن يصحب بعضهم بعضاً على هذا الأساس، وأن يعامل بعضهم بعضاً بهذا المنطق.

لذلك جزعت عندما رأيت بعض من يتنادون بدستور السماء يعيشون في وساوس الأرض وأوحالها.

لقد كان القرآن خُلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أي أن من دعا الناس إلى اتباعه جعله صقال روحه، وملاك أمره، ومعقد شمائله، ودعامة سيرته..

كان محمد عليه الصلاة والسلام نقي السر والعلن، طهور الظاهر والباطن، لا يوجد بين حياته الخاصة وحياته العامة حجاب، فسيرته في نفسه وفي بيته كسيرته بين الناس، ودعوته التي يعرض على الناس أصولها كان أول الناس احتكاماً إليها وأخذاً بها، وقد ظل بارزاً للأصدقاء والخصوم سنين طويلة، فما عُرفت عنه ريبة، ولا وقع تناقض بين سلوكه الخاص وسلوكه العام.

إن الرسالة التي نادى بها هي الرسالة التي عاش فيها، وهي التي ضبطت أحواله كلها سواء ما اطلع عليه الناس أو ما خفي عن أعين الناس.

ومثل ذلك لا يطبقه الأدعياء من أصحاب الشهوات، ومن ذوي الرجولة المريضة والأخلاق الملتوية.

ولقد حاول خصوم رسالته أن يستدرجوه إلى المهادنة والمسلك المزدوج فأبى وهو القائل: {ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها}.

وفي ذلك يقول القرآن: ((فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)).

والحق أن صاحب الرسالة العظمى قد زوده الله بزاد من الشرف والصراحة والثبات هي كِفاء ما حمل من أمانة وبلغ من رسالة.

ولن يصل صاحب رسالة نبيلة إلى غايته إلا إذا مشي في هذه السبيل المشرقة.

ثم إن هذا الرسول لم يفرط أدنى تفريط في صبغ النفوس بتعاليمه وضبط المجتمع بآدابه، ومحاكمة الصغير والكبير إلى معالمه.

بل إنه لم يتساهل في تطبيق ذلك على جثث الموتى، ففي معركة أحد كان يسأل – وهو يستعرض رفات الشهداء –: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فيدنيه منه في الصلاة ويقدمه على غيره في اللحد!

فانظر ماذا صنع المحسوبون على دعوة الله في زماننا هذا؟ داسوا موازين الإيمان وجاءوا برجال لا يدرون من شرع الله شيئاً ليقودوا ركب الدعاة إلى الله! فكان أن قادوهم إلى مواطن الندم..

إن المسلم الذي يفقد ضميره لإيثار شخص بمنصب كيف يرجى منه أن يحكم بما أنزل الله حين يتولى مهام الدولة ويملك أزمتها الكبرى؟

فإذا غلغلت النظر في خبء هؤلاء، وجدت تقرباً سره الزلفى، وإغماضاً سره الجبن، وفصلاً سره الحقد، ووصلاً سره الإدلال، وصداقة سرها الهوى! فأين ((مَا أَنْزَلَ اللَّهُ)) بين قوم هذه حالهم؟

إننا لن نوفق إلى الحكم بما أنزل الله حقاً إلا إذا نمت أعوادنا في مغارس الفضيلة، فكنا عدولاً مع أنفسنا قبل أن نكون عدولاً مع الناس…

وتربية الأجيال الجديدة لتكوين أخلاق عظيمة ومسالك رائعة، خطوة لا بد منها في هذه السبيل.

وقد هيمنت علىّ مرارة الإحساس بهذه الحقيقة فجعلتني أصرخ بالألم في المقالات المثبتة هنا.

إن الاضطراب الشديد داخل الجبهة الإسلامية، والغارة الشعواء على العالم الإسلامي جعلاني موزعاً بين الدفاع والهجوم.

دفاع ضد أقوياء متربصين.

وهجوم ضد أعوان بُله وانين متقاعسين!

دفاع رجل يخشى أن يصاب من ظهره لأن المنتمين إلى الإسلام ينالون منه، وكأنه عدو، وهو الصديق الودود!!

وهجوم رجل يُعيِّر بجهالات غيره، وهو يكافح فكرة (العيش بلا دين).

تلك الفكرة التي تزحف وسط أمواج دافقة من العلم المادي والحضارة المدنية.”

محمد الغزالي

مقدمة الطبعة الأولى

من كتاب

من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث

 

السبت، ٣ أكتوبر ٢٠٠٩

رسائل إلى الدعاة – فى الذوق العام

ما زالت قضيتنا الأساسية فى هذه الرسائل هو حتمية تميز الدعاة عما شاع بين الناس من سلوكيات خاطئة، أو ذوقيات غائبة..

ومما شاع بين الناس من ذوقيات غائبة:

  • أهمية الوقت

كتب د. صلاح عز (الأستاذ بهندسة القاهرة) مقالاً ذكر فيه أن المجلس الأعلى لنقابة المهندسين (قبل فرض الحراسة) كان يتأخر انعقاده لتأخر الأعضاء فى الحضور، وأنه كان كثير الضيق من هذا الفعل الذى يضيع أوقاتاً نحن فى أشد الحاجة إليها؛ إلا أن هذا الضيق لم ينتقل للآخرين، وصار ذلك ديدن الاجتماع!

كما أذكر زميلاً ذهب إلى ألمانيا فى إحدى رحلات العمل، وكان مشاركاًtime_bomb فى دورة تدريبية، وفى نهاية أحد أيام الدورة، توتر المحاضر بعد أن نظر فجأة فى ساعته، وجمع حاجياته سريعاً، ثم أسرع فى الخروج من القاعة، وفى اليوم التالى سأل المشاركون محاضرهم عما حدث فجأة فى الليلة السابقة، فأخبرهم أنه قد واعد زوجته بالرجوع إليها فى الساعة الحادية عشرة مساء، وفجأة أدرك أن الوقت قد لا يسعفه للحاق بآخر قطار يتحرك من المدينة المقام بها الدورة التدريبية، فجرى مسرعاً كى يلحق به؛ ولما لم يلحق بالقطار، استأجر سيارة “تاكسى” ودفع له مائة يورو كى يصل فى الموعد المحدد مع زوجته!

صورتان متناقضتان تماماً تظهران أهمية الوقت، وأهمية الالتزام به، عند من تقدموا وعند من يرى أن ما فاتك اليوم ستلحقه فى الغد، وأن فى العجلة الندامة، وفى التأنى السلامة!!

والصورة الأولى صارت الآن أصلاً لكل أطياف المجتمع (وللأسف من بينهم الدعاة)؛ لذا فأن تتأخر عن موعدك ساعة أو ساعتين، أو أن تترك زميلاً “ملطوعاً” ينتظر طلعتك البهية، أو أن تتحول المقابلات الجماعية إلى مكلمة أو منصة للحديث فيما لا فائدة مرجوة منه (حتى لو لم تكن فى معصية)، أو …، كل هذا صار مألوفاً يُستهجَن فيه من يستهجنه، وينكر فيه على من يستنكره!!

رغم أن مقولات “الوقت كالسيف”، و”الوقت هو الحياة” كلها مقولات لا يفتؤ كثير من مضيعى الأوقات عن تكرارها، وترديدها، ولا حول ولا قوة إلا بالله..

  • مشاعر الآخرين

صار الآن مألوفاً أن تجلس فى مجلس لأهل الصلاح (المفترضين)؛ فتجد من يتحدث عن صولاته وجولاته فى عالم التجارة، أو عن حمامه الجديد الذى نسف به حمامه القديم، أو عن حيرته بين البورسلين والرخام فى “ريسيبشن” شقته الجديدة، أو عن مدى تقدم أولاده فى مدارسهم الأمريكية ذات المدرسات الأمريكيات رغم أن الجالسين فى هذا المجلس فيهم المدرس “الكحيان”، والموظف “الغلبان”، والمستور “الشقيان”؛ ثم لا يمنع ذلك الجلوس فى نفس المجلس من الحديث عن الزهد وأهميته، وأثره فى حياة الدعاة!!

ومن الأمور المؤسفة أيضاً استخفاف بعض الملتزمين بمشاعر غير الملتزمين، أو إغفال حقهم فى الابتسامة، أو الشد على الأيدى حين السلام، أو الحديث أمامهم بما لا يفهمونه، أو بتجاهلهم، أو تجريحهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة..

أعرف أحد هؤلاء الملتزمين الكبار (فى السن) وهو يخاطب واحداً من غير الملتزمين التزم ابنه حديثاً؛ قائلاً له منتشياً ومتشفياً: “السنارة غمزت” مما أثار حفيظة والد الشاب الملتزم، وزاد حنقه نحو كل هؤلاء الملتزمين وأولهم ابنه..

يحدث هذا رغم أن الرفق بالناس، والتودد إليهم، هو أكثر وسائل الدعوة نجاعة، وفلاحاً.

ومما هو شائع أيضاً تعلية الصوت فى المساجد فى الصلوات الجهرية، speaker31 أو التراويح، أو التهجد، أو لدروس علم دون اعتبار لأحقية الناس (المرضى منهم والأصحاء) فى بيوتهم للهدوء والسكينة وراحة البال، ويتم استغلال حياء الناس من الحديث فى هذا الأمر؛ لأن الرد الجاهز “ده كلام ربنا.. اسمعه عشان تستفيد”!!!

  • حق الطريق

صار الشارع المصرى الآن من أكثر – إن لم يكن أكثر – شوارع الدنياً فوضى، وهمجية، ويكفيك نظرة على طريقة سير السيارات، أو على أرتال الزبالة، أو على الضوضاء لتدرك مدى فداحة المأساة التى نعيشها..

وقد يكون هذا مفهوماً فى بلد صار بلا قانون، أو صار قانونه مدى النفوذ، والقرب من دوائر السلطة..Garbage

أما أن ينساق ورء هذه الفوضى من يتحاكمون إلى القرآن، ويقتدون بالرسول، ومن كان لزاماً عليهم أن ينشؤوا دولة الإسلام فى قلوبهم لتقم على أرضهم فهذه هى الكارثة بعينها..

وانظر إلى الأمثلة التالية لتعرف مدى هذا الانسياق:

- ركن السيارات صف ثان وثالث ورابع طوال فترة صلاة التراويح مما يعطل المرور، ويعطل مصالح الناس..

- رمى المناديل وأكياس الشيبس وغيرها من زجاج السيارات..

- استخدام آلة التنبيه “الكلاكس” دون داعٍ..

- الحديث فى التليفون المحمول وقت القيادة مما يعرض حياة قائد السيارة وحياة الآخرين للخطر..

كما ينتشر أيضاً فى الشارع المصرى أمر مرذول آخر وهو الكتابة على الحوائط، ولصق مطبوعات الإعلانات بما يشعرك فى النهاية أنك تسير بين جدران مستشفى الأمراض العقلية؛ فتشعر بالتوتر، ويصاب بصرك بالإجهاد، وأعصابك بالتلف..

وللأسف يشترك فى ذلك الملتزمون فى دعايتهم الانتخابية، أو كتابتهم للآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التى لا يلتفت إليها أحد وسط خضم الفوضى الإعلانية..Wall

وأذكر فى سنة من سنوات دراستى الجامعية أن حدث أمر جلل استدعى أن يطبع شباب التيار الإسلامى نماذج “اسطمبات” على سور الجامعة كله، وبالطبع تم ذلك فى السادسة صباحاً، ولم تمر أكثر من ساعة حتى تم طمس كل ما تم طبعه، فأصبح سور الجامعة لسنين عدة بعد ذلك مسخاً مشوهاً، ولم ير أحد ما كان مكتوباً تحت هذا الطمس الأمنى!!

وكل هذه الأشياء رغم بساطتها تقع فى دائرة أذى الطريق الذى عد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إماطته من شعب الإيمان، بل كانت أدناها، ولا أدرى هل يستقيم أن يقوم بالأعلى من أهمل الأدنى!!

  • الاعتـــذار

كنا يوماً فى تجهيز ساحة ملعب الكرة لصلاة العيد، وكانت أرضية الملعب من النجيلة الطبيعية التى تم زرعها حديثاً، ودخلنا من باب الملعب بسيارة “ربع نقل” تحمل الفراشة المعدة لتغطية أرضية الملعب، ونحن منهمكون فى حمل الفراشة ووضعها على أرضية الملعب، جاء مدير sorry2 النادى والمسئول عن الملعب وأبدى استياء شديداً جداً من دخول السيارة إلى أرض الملعب، وارتفع صوته، فبادرت بالاعتذار عن خطأ لم نتعمده بل غفلنا عنه، وأبلغته أننا سنخرج السيارة حالاً، وتم ذلك بالفعل؛ إلا أن أحد من أعتز بهم لامنى فى ذلك لوماً شديداً، وبأنه ما كان لى أن أعتذر لأننا لم نخطئ، كما أن الاعتذار سيزيد فى تعنتهم معنا، واستعلائهم علينا..

وهذه ثقافة غريبة على روحنا الإسلامية، ولكنها صارت معلماً من معالم الفهلوة المصرية التى ما كان ينبغى للدعاة أن يكونوا جزءا منها..

وكذلك كان الموقف فى حادثة “طز” الشهيرة؛ فرغم أن الموضوع تم تهويله والنفخ فيه؛ إلا أن الاعتذار عنه كان كفيلاً بإكبار صاحبه فى أعين الناس حتى ولو استغل ذلك المتنطعون؛ فالاعتذار ثقافة إسلامية أصيلة تعلمناها من أسلافنا الكرام، ولنا فى بلال، وأبى ذر خير عبرة..

ولذلك صار صعباً أن يعتذر كبير لصغير، أو أن يعتذر أستاذ لتلميذ، أو أن يعتذر زوج لزوجته؛ لأن الاعتذار أصبح معرة، والزمن كفيل بالعلاج!!!

الأحد، ١٣ سبتمبر ٢٠٠٩

رسائل إلى الدعاة – فى تحرى الحلال

بعض الملتزمين مصابون بانفصام عجيب فى الشخصية؛ تقف أمامه عاجزاً عن التفسير، أو التحليل.

Halal_Haram

  • أحد هؤلاء الملتزمين المفترضين حريص جداً على أن تكون مجسمات عرض الملابس (المانيكانات) مبتورة الرأس حتى لا تكون تمثالاً مكتملاً، وهذا شىء ممدوح؛ ولكن العجيب أن معظم محلاته وما فيها من مجسمات ما كانت إلا لعرض ملابس خليعة للشباب (ذكوراً، وإناثاً) لتوكيلات شركات أجنبية مشهورة، وعندما سألت أحد مساعديه عن ذلك، رد بأننا غير مسئولين عمن يشترى هذه الملابس، فليشتريها من يشاء لزوجته لتتزين بها فى البيت، ثم نصرخ فى النهاية شاكين من التبرج، والشباب المخنث!!

  • ومن هؤلاء: مَن خسرت الشركة التى أنشؤوها مشاركة مع أحد المتخصصين فى مجال عمل صناعى، ثم اختلفوا معه، فقرروا إغلاقها بعد شد وجذب، وبالطبع تم فى محضر التصفية تحديد من المسئول عن استلام مستحقات الشركة لدى عملائها، ومن المسئول عن تسديد مديونيات الشركة لمورديها،Halal_Haram_2 وتم التوقيع على ذلك، ثم أخل الطرف المسئول عن دفع مديونيات الموردين الأجانب؛ لأنهم الطرف الأضعف بالطبع، فلم تعد هناك وسائل اتصال موجودة، ولا موظفين، كما أن سمعة الشريك المتخصص هى التى ستـُضر؛ لأنهم فى النهاية مستثمرون، وكذلك كان الحال مع مورد مصرى؛ لأنه مؤدب و”ابن ناس”، ولم يرد أن يستغل ظروفاً خارجية تعرض لها هؤلاء المستثمرون، مع كونه قادراً أن يجرى لهم فضيحة تجرسهم، وتجبرهم على الدفع الفورى، هذا مع العلم أنهم يمتلكون الملايين رغم ما تعرضوا له من مشاكل فى استثماراتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله!! ألا يدرك هؤلاء كم يصدون عن سبيل الله بأخذ حقوق هؤلاء غير المسلمين غصباً، وعدواناً؟ ألا يدرون أنهم بذلك شر ممثل لدعوة لبها العدل، والقسط؟!!

  • ومن المجالات التى يغفل عن تحرى الحلال فيها كثير من الملتزمين مجال تعبئة المواد الغذائية كالزيوت والسكر والأجبان وغيرها “تحت بير السلم”، ففى الأغلب الأعم يقوم تجار هذا oil المواد بتعبئة هذه المواد فى ظروف غير مراعية لقواعد الصحة العامة، ولا مطابقة للمواصفات القياسية، كشراء بواقى زيوت مصانع “الشيبسى” وتصفيتها،  وإعادة تعبئتها، وبيعها للمطاعم، أو كشراء الألبان غير المتأكد من مصدرها بناء على السعر لا على الجودة، وكذلك “اللانشون” و”البسطرمة”، وغيرها الكثير والكثير.. ومن المعلوم أن أحد أكبار أسباب أمراض السرطان، والفشل الكلوى، والكبدى فى مصر راجع إلى التلوث الغذائى الذى تسببه هذه الوسائل غير الشرعية فى تعبئة الطعمة المختلفة، فهل تساوى أرباح هذه التجارة لحظات ألم مريض واحد يشكو ربه ظلم الظالمين، وجشع الطامعين!!

  • ومن أخطر مسالك الحرام فى مصر هو التعامل مع الجهات الحكومية، واستسهال دفع الرشى للحصول على عملية، أو مقاولة، والتحجج الدائم بأن هذه طبيعة “السوء”،bribery وأننا مجبرون على ذلك، وقد يكون هذا صحيحاً إن كنت فعلاً مجبراً عليه بأن تأخذ المقاولة أو العملية بحقها، وتؤديها على أكمل وجه، ثم يظهر لك من يعطل إجراءات الاستلام دون أسباب؛ عندها قد تكون مضطراً.. أما أن تكثر من الهدايا لمسئولى المشتريات، وتلجأ لأساليب المعرفة المسبقة الرخيصة لأسعار المنافسين، أو أن تقلل من الخامات بالتواطؤ مع هذا الموظف أو ذاك؛ فهذا هو الحرام بعينه..

 

  • ومن الأمور المؤسفة أيضاً والمنتشرة فى ربوع بلادنا، وينساق فيها الملتزمون وراء العرف السىء، استحلال المال العام: كسرقة التيار الكهربى مثلاً عند عمل فرح، أو مأتم، ومثل: التعدى على الشارع العام بزيادة المساحة المقررة للمنزل المراد بناؤه، واقتطاع هذه الزيادة من الشارع العمومى، ومثل: التهربmal3am من دفع تذاكر القطار ما أمكن، ومثل: الحصول على ما ليس بحق، كحصول الطلاب غير المحتاجين على المعونات المفروضة للفقراء، أو السكن فى المدينة الجامعية لغير مستحقها بوساطة أو بتحايل أو بشىء من هذا القبيل.. وإن كان من الممكن فهم صدور ذلك من الجاهل، أو الفقير؛ فما مبرر المسلم الملتزم العارف لدينه، والقارئ لكتابه، والذى يعلم أن شهيداً دخل النار فى شملة أخذها بغير حق من غنيمة المسلمين، والذى يعلم قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن الدنيا خضرة حلوة؛ فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ورُب مُتخوِّض في مال الله ومال رسوله ليس له إلا النار يوم القيامة».

  • ومن النماذج المتكررة فى الفترة السابقة أن يعطى مجموعة من الملتزمين ملتزماً آخر مالاً لتشغيله على وعد بربح كبير، دون معرفة دقيقة بماهية هذا التشغيل، ويقوم الطرف الآخر (المُشغِّل) بتشغيل هذا المال عند طرف ثالث على وعد بربح أكبر؛ فيستفيد هو كطرف وسيط من فرق الربح، وتبدأ عملية توزيع الأرباح وينتشى الجميع بربح قد يصل فى بعض الأحيان إلى خمسين فى المائة، ويسرف الطرف الوسيط فى الإنفاق، والأخذ من مباهج الدنيا، حتى تقع الفأس فى الرأس، وتتوقف الأرباح، وتضيع الأصول، ويظل الجميع يصرخ، ويتم استدعاء من كانوا يوماً كباراً (ولم يستشاروا عند الاتفاق)، وتضيع أموال هذا، ويتوقف دفع أقساط ذلك، وينشغل الجميع فى قضية لم يتحر أصحاب المال فيها حلالاً، ولم يسألوا يوماً عن ميزانية، أو طبيعة عمل، ولم يتوقف الوسيط عن التظاهر كذباً بأنه رجل أعمال ماهر، وما هو إلا مضيع للأمانة، أما الطرف الثالث فلم يعرف أحد أصلاً فيم يعمل، ومن أين أتى بالأموال؟ وأين ذهبت؟ فهل يليق هذا بمن يريدون أن يقدموا نموذجاً جديداً يستحق الاقتداء من المسلمين!!

إخوانى.. أخواتى

إن الملتزمين بدين الله، وأحكامه ما زالوا أمل هذه الأمة، وما كان لهم ليتيهوا فى الأرض مع التائهين، ولا ليبتعدوا عن شرع الله مع المبتعدين..

فخطأ الملتزم يتعداه إلى غيره من الناس؛ فهو القدوة، والمثل؛ فإن انحرف عن الأمانة ضيعها الناس، وإن أكثر من التورية، كذب الناس، وإن مد يده إلى شبهة، استحل بها الحرام الناس..

فلنتق الله فى ديننا، وفى أمتنا، ولنتذكر قوله صلى الله عليه وسلم:

«الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات: كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.».

الأربعاء، ٩ سبتمبر ٢٠٠٩

رسائل إلى الدعاة – فى حقوق وواجبات العمل (2)

لو وضع كل واحد منا نفسه مكان غيره لارتاح، وأراح غيره..bad_employee

ثانياً: رسالة إلى الموظفين:

  • الحضور والانصراف:

أ. محمد محافظ على إلقاء الدرس اليومى بعد الفجر فى فى رمضان، وبنشوفه فى الشغل (الحكومى) بس يوم قبض المرتب آخر كل شهر”..

هذا نموذج حقيقى أعرفه شخصياً، وكنت أشكك فى دقته بشكل أو بآخر؛ لأنى كنت أسمعه من س، ص غير الملتزمين! ولكن ما أكده لى هذه المرة سماعه من أستاذ آخر فاضل ساءه اختيار أ. محمد للترشيح فى إحدى الانتخابات.

وهذا مع العلم بأن وظيفة أ. محمد ليست وظيفة وهمية، أو أنها وظيفةEntry_time إدارية يقوم بها بها بدلاً من الواحد ألفاً، ولكنه فى وظيفة مهمة، غيابه عنها يؤثر على مصالح الناس، أو على الأقل يزيد الضغط على من هو أصغر منه سناً لقضاء حاجات الناس..

ولا أعرف كيف تطيب نفس أ. محمد للرزق الذى يقتات منه هو وأولاده، وكيف ينعم بالخيرات التى ينالها من عمله الخاص الذى يقتطع وقته من وقت عمله الحكومى..

قد يكون هذا نموذجاً صارخاً، وقد يفعله آخرون كثيرون، وخاصة فى المصالح الحكومية؛ ولكن لا يصح أن يصدر ممن يدعى التزاماً، ولا ممن يريد لهذا الأمة رفعة، وعزاً، أو ممن يسعى لإصلاح ما فسد فى مجتمعات المسلمين..

وهناك نماذج أقل حدة وهى كثيرة وللأسف مثل: تأخر المدرسين (مربى الأجيال) عن الذهاب لمدارسهم، أو “تزويغهم” رغم حاجة الطلاب إليهم، أو اهتمام الأطباء بعياداتهم، وترك المرضى للأطباء الممارسين غير المتخصصين، وعلى هذا فقس..

وحجج الجميع جاهزة: “الكل يفعل ذلك”، أو “على قد فلوسهم”..

ولا أدرى من يؤثر فى الآخر؟

المجتمع (العليل)، أم حملة لواء الدين والإصلاح؟!!!

  • الأمانة:

قد يكون جل الملتزمين من أكثر الناس أمانة، وهذه حقيقة؛ ولكن ما عاد مفهوم الأمانة هو الحفاظ على المال بشكل مباشر فقط، ولكن تعداه إلى مسارات، ومجالات أخرى..

فالحفاظ على أسرار العمل أمانة، وأعلم أحد المهندسين الملتزمين (أو هكذا يقول) فقد عمله (بفضيحة) لأنه أطاع رئيسه فى العمل بالتجسس على ملفات ما كان لهم الإطلاع عليها.

وتقليل نفقات الجهة التى تعمل بها أمانة؛ فليس من المقبول أن تسرف فى الإنفاق من مصروفات الشركة بحجة أنها غنية، ولا تفرق معهم، وهذا يحدث كثيراً للأسف!

والحفاظ على العهد أيضاً أمانة؛ فليس مقبولاً أن تنفق عليك شركة تدريباً، وتأهيلاً، وخبرة، ثم تتركها وقت أن تحتاج الشركة إلى خبراتك بمجرد أن تحصل على عرض أعلى، أو شركة أرقى! وأعلم أحد المهندسين الشباب رفض الالتزام بعهد زمانى مع الشركة التى بدأ العمل بها؛ لأنه قدم أوراقه فى جهة أخرى يرغب فى العمل بها، ورغم أن رفضه هذا كان سبباً فى فصله من الشركة؛ إلا أن موقفه كان صواباً حتى لا يضع نفسه بعد ذلك فى موقف خيانة العهد والأمانة..

والحفاظ على وقت العمل أيضاً أمانة؛ فلا يليق أبداً أن يستغل وقت العمل  فى استضافة الزملاء والأصدقاء والجلوس معهم لأوقات طويلة لترتيب أمر ما حياتياً كان أو دعوياً..

والحفاظ على مال الشركة بالطبع أمانة.. ومن المواقف الجميلة التى  سمعتها من صاحبها، بأنه شك فى عملية مالية قام بها أحد مندوبى Under_tableالشركة، فظل يتتبع الأمر حتى تأكد من شكوكه، واستطاع استرداد المبلغ، وإعادته إلى الشركة، ونصحناه بإبلاغ مديريه بذلك؛ لأنها أمانة..

وكثيراً ما يخطىء بعض مندوبى المشتريات بالذات بأن يقبلوا هدايا (عينية أو مالية) من الموردين، والمندوب يعلم تماماً أن هذه الهدية (الرشوة) ما كان ليأخذها لو كان يعمل فى وظيفة أخرى، وأنها استدراج من المورد لتفضيله على غيره من الموردين الآخرين فى العمليات اللاحقة..

وقد اشتكى لى ذات مرة أحد الأصدقاء من أن مندوبيه يفعلون ذلك دون حرج، وهو يعلم ذلك، ويسكت على مضض، والكارثة أن الملتزمين منهم بدأوا بتقليد نظرائهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

  • استخدام موارد الشركة

من الكوارث التى تصيب معظم الناس هى التساهل فى استخدام موارد شركته كالتليفون، والسيارة، وغيرهما..

وقد رأيت زميلاً (غير ملتزم) ذات مرة يدير انتخابات خاله (مستقل وطنى) فى أسوان من المكتب فى القاهرة طوال اليوم..Car-key-jammer

وتتصل بأحد زملائك الملتزمين من محمولك الشخصى، فيغلق عليك؛ ليتصل هو بك من تليفون العمل كى يوفر لك من حساب الشركة المؤتمن على مالها، أو يطمئن على أهله فى الأقاليم يومياً لنصف ساعة مثلاً من تليفون الشركة، وغير ذلك كثير..

وهذه الموارد كالمال العام تماماً، وما ينطبق على المال العام (الحكومى) ينطبق عليها مع الفارق فقط فى مدى الضرر، وتشعبه..

إخوانى.. أخواتى

قال صلى الله عليه وسلم:"العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع بيته" رواه الطبراني.

ولنعلم أيضاً أن "كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به".

الاثنين، ٧ سبتمبر ٢٠٠٩

رسائل إلى الدعاة - فى حقوق وواجبات العمل (1)

ما أسهل أن تخطب فى الناس عن واجباتهم نحو الآخرين، ولكن ما أصعب الأمر حين يتعلق الأمر بواجباتك أنت! وما أشدها من صعوبة حين يتعلق الأمر بالمال.. زينة الحياة الدنيا..

employees أولاً: رسالة إلى أرباب الأعمال:

  • التأمين الاجتماعى:

عملت فى حياتى المهنية فى أكثر من شركة داخل مصر، كان من أصحابها الملتزم دينياً بل ويعد نفسه من الدعاة، ومنهم الشخص العادى بل غير المسلم أيضاً، ولم يتم التأمين علىّ اجتماعياً، وبالتالى طبياً إلا فى شركة واحدة (أصحابها مسيحى ومسلمان لا يدعيان التزاماً) أما الآخرون؛ فيتحايلون، ويدفعون رشى لموظفى التأمينات كى يتجنبوا التأمين على الموظفين، ولا يرون غضاضة فى ذلك، بل ويستحلونه؛ لأن الدولة تفعل كذا، وكذا، بل ويتفلسف البعض بأن التأمين فى الأصل حرام، رغم أنه تأمين من الدولة لمواطنيها (وهو واجب عليها) تلزم العامل ورب العمل بدفع أقساطه الشهرية حتى ينال معاشاً له ولأولاده حين تقاعده، أو إصابته، أو موته.

ولا أدرى كيف سيحاسب رب العمل (الداعية) نفسه حين يسقط حقmicrobus-accident معاش أحد موظفيه عند إصابته فى حادث قد يفضى به إلى الموت، أو حين يسقط حق رعايته الطبية (خصوصاً فى الأمراض المزمنة)؛ لأنه لم يتق الله، واستحل دفع الرشى جلباً لمكاسب أكثر، وتملصاً من واجبات نحو من جعله الله سبباً فى رزقهم..

وهناك صورة أدنى، وهى التأمين على الموظف بالحد الأدنى من الأجر، لكى يتجنب دفع مبالغ تأمينية كبيرة؛ مما يؤدى فى النهاية إلى تقليل المبلغ المدفوع للمعاش فى حالة الإصابة أو الوفاة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد يتحجج صاحب العمل بأن قانون العمل مجحف، وأن فصل عامل مهمل مؤمّن عليه قد يجر عليه مشاكل كبيرة هو فى غنى عنها، وقد يكون ذلك صحيحاً من زاوية، ولكنه تلبيس شيطان من نواح أخرى؛ لأن قانون العمل هذا يتيح لصاحب العمل أن يضع الموظف الجديد تحت الاختبار فترة من الزمن قبل التأمين عليه، كما أن صاحب العمل يكسب انتماء الموظف المؤمَّن عليه، وبالتالى يزداد ولاؤه للمكان، وتزداد مع ذلك إنتاجيته، مما يعود بالربح على الطرفين..

فعلى أصحاب العمل، وخصوصاً الدعاة منهم، أن يتقوا الله فى موظفيهم، وأن لا يضيعوا حقوقهم، لأجل مبالغ تافهة تزيد من أرباحهم؛ ولكنها تكون عليهم وبالاً فى الآخرة.

  • ساعات العمل الإضافية:

“سوق العمل كله كده”.. “هو عارف قبل ما يشتغل إن ساعات العمل حسب الظروف”.. “لو مش عاجبه غيره مش لاقى الفرصة دى”.. “…”

هذه هى الردود الجاهزة والمعلبة لأصحاب العمل حين يسألون عن بدل ساعات العمل الإضافية (overtime)..overtime

فقد رأيت من يستعبد موظفيه من التاسعة صباحاً حتى التاسعة أو العاشرة مساء، وقد يزيد فى المواسم، ولا يعطيهم قرشاً واحداً إضافياً مقابل هذا الاستعباد..

ويتجاهل هذا أن قانون العمل لا يسمح بذلك، كما يتجاهل أن ما أخذ بسيف الحياء فهو رد..

ولا يعلم رب العمل أيضاً أن هذا الموظف الذى يحرم من أسرته، ومن ممارسة حياته الطبيعية دون مقابل.. إنما يفعل ذلك وهو مضطر، وأن ما تحاول أن تحرمه عنه من حقوق، يأخذه منك فى صور أخرى قد تدرى بها، أو لا تدرى؛ مما يؤدى فى النهاية إلى تشوهات فى النفوس، وفى العمل نفسه، قد يكون رب العمل نفسه أول خاسريه.. إن لم يكن فى الدنيا، ففى الآخرة قطعاً..

  • المرتبات

فى ظل الأزمات التى يعيشها المجتمع المصرى، يبقى ثبات الدخل الشهرى أزمة كبرى للموظفين، وأسرهم..salary_1

وقد يتفهم الواحد منا ثبات المرتب فى شركة متعثرة، أو فى شركة صغرى ما زالت تحبو فى عالم الأعمال..

ولكن ما لا أفهمه هو ثبات هذا الدخل، أو زيادته زيادة طفيفة طبقاً لقانون العرض والطلب؛ فتجد الصيدلى مثلاً يحصل من الصيدلية التى يعمل فيها على أجر (500 جنيه أو ألف جنيه مثلاً) رغم أن الصيدلية تكبر، وتزداد أرباحها، بحجة أن الصيادلة كثيرون “وإن كان عاجب”.

وقد تجد مرتب المحاسب لا يتجاوز المئات من الجنيهات، رغم أنه يتعامل مع ميزانية بالملايين؛ لأن “سعر المحاسبين فى السوء كده”.

ولا أدرى عن أية دعوة نتكلم، وعن أية صدقات نخرج، ونحن نضغط اجتماعياً، ومادياً على من يساهمون فى زيادة دخولنا وأرباحنا التى نزكى، ونتصدق منها!!!

  • الأجازات

العمل عندنا 10 ساعات فى اليوم.. 6 أيام فى الأسبوع.. 52 أسبوع فى السنة”.. “لما تحتاج أجازة تبقى تفرج”..

أعرف أحد هؤلاء أرباب العمل (من طائفة الدعاة المزعومين) أجاب ضاحكاً حين سؤاله عن أجازة يوم رأس السنة الهجرية: “يعنى الرسول يتعب ويهاجر، وإحنا نقعد فى البيت”..vacancy

هكذا ببساطة فأنت مطالب بأن تتسول الأجازة؛ فلا قانون لها ولا حدود، وعليك أن تمتن إن وهبك صاحب العمل أجازة ليومين حين ترزق بمولود، وأن تقبل الأيادى حين تحصل على أسبوع أجازة للمصيف..

فلنعطِ للناس حقوقها من خلال لائحة مكتوبة تطبق على الجميع؛ فلا تضعهم فى حرج، ولا تحرم أولادهم، وأهليهم منهم؛ لأجل راحتك أنت أيها الداعية..

إخوانى.. أخواتى

هل بالله عليكم ترضى هذه المنظومة الله ورسوله؟ وهل كلامنا المعسول عن واجبات الدولة نحو مواطنيها ينسجم مع ما نفعله نحن مع موظفينا؟

أسئلة كثيرة.. وواقع مرير يحتاج إلى دعاة سلوك، لا دعاة وعظ وإرشاد..

الأحد، ٦ سبتمبر ٢٠٠٩

رسائل إلى الدعاة

message لم تكن الدعوة إلى الله يوماً حكراً على مجموعة من المسلمين دون غيرهم؛ ولكن أرادها الله لعموم المسلمين – كل على قدر استطاعته وعلمه.

كما أن الدعوة لم تكن يوماً منحصرة فى كلمات تقال على منبر، أو سطور تكتب فى صحيفة؛ ولكنها كانت بالكلمة تارة، وبالعمل مرات، وبالخطابة مرة، وبالسلوك مرات، وبالحجة مرة، وبالقدرة مرات..

ولم يشهد عصر سابق ما يعيشه عصرنا من كثرة منابر دعوة الكلمات: فمن منبر الجمعة، إلى دروس العلم، ومن شريط “الكاسيت” إلى أقراص “الفيديو”، ومن مسامع الإذاعة، إلى مشاهد “التليفزيون”.

ورغم ذلك يجمع الناس أن الأخلاق ازداد انهيارها - وإن كثر رواد المساجد، وأن الذمم استشرى فسادها – وإن علت بالدعاء الحناجر، وأن الأواصر تقطعت – وإن بانت من الإسلام المظاهر..

ولم أر سبباً لمثل هذا التناقض كغياب القدوة..

القدوة المتجسدة فى بشر نراهم، ونعايشهم.. يعملون، فنتأسى بفعالهم، ويعفون، فنزهد، ويسمون، فنرتقى، ويتواضعون، فنرق، ويتجردون، فنتحرى..

ولقد سلَّم دعاة الكلمات بهذا الغياب؛ فصاروا يستدعون القدوات من سالف الأزمان؛ وجميل الأفعال من صفحات التاريخ..

ولسان حالهم فى ذلك يقول: زمانكم زمان المعصية، وما عاد بينكم من به تقتدون، ومن بسيرته تقتفون، ونحن مثلكم، ولكنا نقرأ، وأنتم لا تقرؤون..

وتواطأ على ذلك جل الدعاة؛ لعجز فى أفهامهم، والمدعوين؛ لرغبة فى نفوسهم إلا من رحم ربك..

وقديماً قالوا: “فعل رجل فى ألف رجل خير من كلام ألف رجل فى رجل”..

فأين نحن من كلامنا؟ وأين أمتنا من فعالنا؟

وسأحاول فى هذه السلسة البسيطة أن أوجه رسائل للدعاة إلى الله، استخلصتها من مواقف عايشتها؛ وأثرت فىّ.. منها الإيجابى، ومنها السلبى..

ولتكن هذه الرسائل لنفسى، ولغيرى من باب “وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين”.

أتوجه بها إلى صاحب العمل، كما إلى الموظف.. وإلى الزوج، كما إلى الزوجة.. وإلى الشاب، كما إلى الكبير..

والله هو الموفق، وهو الهادى إلى سواء السبيل..

الأحد، ٣٠ أغسطس ٢٠٠٩

لماذا نغترب؟

msafer الأصل فى الإنسان أن يحب وطنه (المكان والإنسان)، وأن يسعى للبقاء فيه.. اطمئناناً وأنساً، وأن يجاهد لرفعته وإعلاء شأنه..

ورغم ذلك فإن ملايين البشر يغتربون، ويتركون أوطانهم.. فمنهم المهاجر الذى لا ينوى العودة، ومنهم المسافر الذى يتشوق للرجوع، وما بين هذا وذاك تصانيف أخرى، ونوايا عديدة..

قد نغترب سعياً وراء الرزق – وهذا أكثره، وقد نغترب أملاً فى حياة أفضل، وقد نغترب هروباً من واقع أو تغييراً له، وقد نغترب بحثاً عن مجهول لا نعلمه أو سعادة لا نعرف كنهها.

وما أعلمه أن المصريين من أكثر شعوب الأرض ارتباطاً بوطنهم، وقد تكون هذه طبيعة البلدان الزراعية التى يرتبط أهلها بأرضهم، وزرعههم، ومياههم..

ورغم ذلك فإن المصريين هم أيضاً من أكثر شعوب الأرض اغتراباً، وترحالاً.. فأعداد مغتربيهم بالملايين شرقاً وغرباً..

إذن.. لماذا؟!

لماذا نغترب؟

ولأن مراكزنا البحثية لاهية، ولأن الإحصاءات فى بلادنا ترف؛ فإنك لا تعرف لسؤالك إجابة شافية، ولا تعرف للإجابات أسباباً كافية..

فلا أستطيع أن أجيب أنا نيابة عن ملايين المغتربين، ولكنى قد أحاول الإجابة عن نفسى، ولنفسى!

فقد التقيت شاباً مغترباً، سبقنى إلى الغربة منذ ثلاث سنوات، وسألنى السؤال ولكن بطريقة مختلفة.

فبعد أن سألنى عن أحوال البلد، وما يموج فيها.. عن ناسها، وأرضها، وحالها.. وبعد أن أجبته الإجابة التى يسمعها من كل مغترب جديد بازدياد الأمور سوءاً فى البشر كما فى الحجر، وفى الحال كما فى المآل، وفى النفوس كما فى العقول، وفى العدل كما فى الحقوق..

سألنى حينها مستنكراً أو مستفهماً: أليست غربتنا هروباً؟ وإن سافرنا نحن، وسافر غيرنا، فمن ينقذ هذا البلد، ومن يأخذ بيده ليرفعه من عثرته، بل كسرته؟!

أجبته الإجابات المعتادة، والتى كررها معى، ليؤكد لنفسه أنه مجبر، وأن السبل سدت فى طريقه، وأن الأمور لم تكن لتحتمل المزيد، و…..

وتركت لنفسى ما يخصنى من الإجابة..

فهل فعلاً هربت؟

وهل اخترت حظ النفس؟

لا أملك لذلك إجابة قاطعة، ولكنى أملك مجموعة من الظروف قد تساعد فى الحصول على إجابة سؤال: لماذا اغتربت؟

فأنا أزعم أنى لم أكن أملك خياراً آخر، فاخترت غربة، وتركت وطناً؛ لأنى قد وضعت نفسى (بأخطائى) فى زاوية مهنية لم تعطِ لى من الخيارات الكثير، بل صرت بهذه الأخطاء أسيراً لقرارات غيرى، وتبعاً لإرادات من ساقهم الله إلىّ رحمة بى..

كما أقر بأنى قد فشلت فى تغيير ما كنت أود تغييره، وأنى قد أصبت بنكسة فى الطريق الذى اخترته لتغيير الواقع الذى نحياه؛ فقد حاولت مراراً وتكراراً، وفشلت.. نعم فشلت.

فلقد صدمنى من لم أنتظر منهم الصدمات، وأصابنى من أمنت جانبهم، وكسرنى من اتكأت عليهم..

فعندما يلهو من يزعمون إرادة التغيير..

ويقسو من تنتظر منهم الرحمة..

ويغفل من تركن إليهم الأمة..

ويجهل من يحملون القناديل..

فلا بد أن تتوقف قليلاً، وأن تتريث فى مشيك، بل وأن تبتعد فترة لتقيم ما كان، وترتب لما سيكون..Pure_Heart

لا بد حينها أن تنظر فى مرآة نفسك، كما تفحصت مرآة غيرك..

كما لا بد أن تراجع الطريق (الذى لا تظن طريقاً غيره) لتتعرف على عثراته فتتجنبها، ولتشققاته فتنظر فى أسبابها..

فترة بحث عن وسيلة جديدة لذات الهدف، وعن مسار جديد لنفس الطريق يتجنب زلل ما كان، ويأمل فى صواب ما يكون..

كما أنى لى فيها أيضاً مآرب أخرى..

كانت هذه إجابتى لنفسى..

فهل يا ترى عرفت (أنا) لماذا اغتربت؟

إخوانى.. أخواتى

لم تكن هذه التدوينة زفرة ضاقت بها نفسى، فأردت إخراجها إلى الفضاء، ولكنها كانت سعياً صادقاً للحث على الإجابة عن أسئلة حياتنا الكبرى.

فكما يسأل المغتربون أنفسهم: لماذا نغترب؟

فلا بد أن يسأل المقيمون أنفسهم أيضاً: لماذا نقيم؟

الخميس، ٢٧ أغسطس ٢٠٠٩

أن تعيش وحيداً فى رمضان

من نفحات الله على عباده شهر رمضان.. شهر القرآن.. والتوبة إلى الله..

وهو الوقفة السنوية التى يحتاج إليها المسلمون (أمة وأفراداً) ليراجعوا فيها أنفسهم، وأحوالهم، ومدى قربهم من خالقهم، والتزامهم بتعاليمه، والاقتداء بنبيه فى الأقوال، والأفعال..

كما أنه شهر تجديد الإيمان، والعتق من النار..

وقد أتانى رمضان هذا العام – ولأول مرة فى حياتى – وأنا وحيد.. مفتقد لأهلى، وأحبائى.. بعيد عن أرضى، وناسى..

أتانى رمضان لهذا العام، وأنا فى غربة لم أعتدها.. غربة رفقة، وغربة مكان..

وقد يكون هذا الجو مثالياً لشهر العبادة.. شهر القرآن..

ففى مثل هذه الوحدة تتخفف من العوائق، وتتخلص من المشاكل، وتتجنب كثرة القيل، والقال، وكثرة السؤال..

وفى مثل هذه الغربة يتوفر الوقت، وتتوافر الراحة؛ ويستريح البدن؛ فيصفو القلب، وتسمو الروح، ويروق العقل..

ولمثل هذه الفرصة، تكثر من تلاوة القرآن، وتسرع الخطى إلى المساجد، وتسبق إلى الصف الأول، وتمكث إلى طلوع الشمس، وترطب لسانك بذكر الله.

حلم جميل قد يرد بخاطر كل واحد منكم أن تأتيه تلك الفرصة التى واتتنى فى هذا الشهر الكريم..

حلم جميل أن تفرغ للعبادة، وأن تقترب من الطاعة، وأن تبتعد عن المعاصى..

ولكن..

يرد الخاطر، وتـُستدعى الأحداث..

  • ألمثل هذا خلقنا الله؟!

  • علام نـُحاسَب إن عشنا منفردين؟!

  • ومتى نجاهد إن صرنا منعزلين؟!

  • وهل ننجو بأنفسنا؛ ولتغرق الأمة؟!

إخوانى.. أخواتى

يا من تكابدون، وتصبرون على أذى الناس؛ فتأسى على الأذى نفوسكم..

ويا من تكدون فى أعمالكم، وتسعون على أرزاقكم؛ فتعودون منهكين متعبين..

ويا من تصلون أهلكم وإن قاطعوكم؛ فتتألم لذلك قلوبكم..

ويا من تسهرون لمصالح الناس؛ فلا تـُشكرون..

ويا من تربون أبناءكم؛ وتقومونهم، فتنجحون تارة، وتخفقون أخرى..

ويا من تعايشون أزواجكم؛ فتفرحون، وتغضبون..

ويا من ...........

إلى كل هؤلاء:

هنيئاً لكم، وإن قـَلـَّت عباداتكم الظاهرة..

بشراكم؛ فهذه هى الحياة التى أرادها الله لنا..

أغبطكم.. وأدعو الله أن تعود إلىّ الحياة مرة أخرى..

الأربعاء، ٢٤ يونيو ٢٠٠٩

المتبقى

Almotabaky_2

يبقى ما تراه العين، وتسمعه الأذن، ويخفق له القلب هو الأكثر أثراً فى الوجدان، والأبقى ثبوتاً فى الذاكرة، والأيسر ولوجاً إلى العقول..

ولا تحقق أداة واحدة هذه المعادلة بقدر ما تحققها الدراما السينمائية.

هذا ما أكدته لى معايشتى للفيلم السورى الإيرانى "المتبقى" المأخوذ عن قصة "عائد إلى حيفا" للأديب "غسان كنفانى"، وبطولة "جمال سليمان" و "سلمى المصرى".

ورغم أنى لا أحترم معظم الأفلام العربية التى شاهدتها، وأصنف جلها فى دائرة "الهزل" غير البرىء، أو فى دائرة "الجد" الخبيث إلا أن فيلماً كهذا - رغم فقر إنتاجه - أعاد إلىّ الأمل فى أن نرى يوماً دراما سينمائية عربية جادة، تصب فى مصلحة تطور هذه الأمة، والدفاع عن قضاياها.

الفيلم يحكى بشكل مبسط -  لا كلفة فيه - عن اغتصاب فلسطينAlmotabaky_1 على يد العصابات الصهيونية، تحت تواطئ بريطانى غربى عالمى، وغفلة عربية إسلامية.

وقد حمل الفيلم مجموعة من الشخصيات الرمزية المعبرة عن كيفية اغتصاب الأرض المقدسة، وعن الطريق الوحيد لاستردادها. وهذه الشخصيات هى:

  • رضيع فلسطينى يموت أبواه مقتولين على يد العصابات الصهيونية فى مذبحة عامة لأهل مدينة حيفا؛ فتأخذه أسرة يهودية عقيم، فتسميه "موشى" بدلاً من "فرحان".
  • طبيب فلسطينى - أبو الرضيع - يرفض تهديداً يهودياً بمغادرة أرضه وإلا تم قتله، ويستمر فى الدفاع عن المدينة بتطبيب ضحايا المذابح الصهيونية حتى آخر لحظة من عمره.
  • أم الرضيع تخشى على أسرتها (الزوج والرضيع) من بطش القتلة المجرمين؛ فتلح على زوجها بمغادرة المدينة (فى صورة إنسانية معبرة مقابلة لإجرام لا حدود له).
  • قاتل الطبيب وزوجته هو يهودى تربى معهم، وعايشهم فى فترة الطفولة والشباب؛ ولكن طباع القتل والإجرام لم تستسلم للنزعات الإنسانية الطبيعية.
  • جد يقنع ولده بأن يبقى فى أرضه، ولا يتركها فريسة فى يد الغاصبين، رغم أنه قد فقد ولده الآخر، وابنته وأسرتها على يد هؤلاء المجرمين، ورغم ضغوط زوجه عليه بعدم التفريط فى ابنهم الثانى وأسرته.
  • جدة صلبة قوية تتعامل بفطرة وأمومة تتغلب على مشاعرها، وألمها، وتقبل أن تخدم الأسرة اليهودية التى اغتصبت بيت ابنها، ورضيعه حتى تتمكن من إرجاعه مرة أخرى.

وقد كانت نهاية الفيلم الأكثر تعبيراً؛ فتقوم الجدة بتفجير القطار الذى تركبه الأسرة اليهودية الغاصبة، والذى يحتوى على ذخيرة، ستوجد آلافاً من "فرحان" الذى صار "موشى"، وتقفز بحفيدها من القطار متوكلة على ربها، ولاهجة بذكره.

ولقد وجدت نفسى متسائلاً فى نهاية الفيلم الذى لم أره على شاشة فضائية:

هل نسينا فعلاً كيف اغتصبت فلسطين؟

وهل نسينا فعلاً معاناة الفلسطينيين؟ وكيف طردوا من بلادهم؟

وهل أخطأ العرب والمسلمون فعلاً برفضهم قرار التقسيم الذى كتب بدماء شيوخ ونساء وأطفال فلسطين التى سالت على الأرض المقدسة؟

وهل فعلاً "ما فات مات" كما يدعونا السيد أوباما؟

وهل سلام الفئران المذعورة هو فعلاً الفرصة الوحيدة الباقية لنا فى الحياة؟

وهل صار الخونة الذين صاروا يتحدثون جهاراً نهاراً عن حتمية السلام مع الغاصبين القتلة هم قادة لنا؛ فنفوضهم فى التنازل عن أرضنا، وفى الموافقة على منع اللاجئين من العودة إلى أراضيهم؟

وهل من الممكن أن تتعايش فعلاً مع من قتل أباك، وخطف ابنك، واغتصب دارك، وسفك دم أمك وزوجك؟

إخوانى.. أخواتى

أدعوكم لمشاهدة هذا الفيلم؛ فهو يذكرنا ببعض ثوابتنا التى يريدون أن ننساها بقول "السلام عليكم".

http://www.ikhwan.net/vb/showthread.php?t=89820

الأحد، ١٠ مايو ٢٠٠٩

رسالة أوباما للعالم الإسلامى فى الذكرى الثانية والأربعين لهزيمة الخامس من يونيو

Obama_1

إلى إخواننا وأخواتنا المسلمين فى منطقة الشرق الأوسط، منبع الحضارات، ومولد كل الديانات السماوية..

أحدثكم هذه الليلة بعد مرور اثنين وأربعين عاماً على يوم فاصل فى تاريخ حضارتنا البشرية العظيمة.. يوم الخامس من يونيو الذى فرض فيها أبناء هذه الحضارة - الذين جاءوا من مشارق الأرض ومغاربها - السلام على map07ir5 أرضكم التى غابت عنها قـِيمُها مئات السنين، وسادت فيها قيم وحشية على أرضنا المقدسة..

كان هذا اليوم فاصلاً فى تاريخ صراع حضارتين.. فيه فرض السلام بمنطق  حضارتنا البشرية العظيمة، حيث لم ترق فيه دماؤنا، ولم تجابهنا جيوش ولا شعوب، وفرض فيه الأمر الواقع، وأرجعت إلينا الأرض المقدسة..

فى هذا اليوم العظيم اندحرت خمس جيوش عربية منسحبة منكسرة ذليلة كعلامة على الإقرار بأحقية حضارتنا فى قيادة العالم، وعلى حق أبناء هذه الحضارة فى امتلاك الأرض المقدسة التى طـُردوا منها منذ ثمانمائة واثنى عشر عاماً..

جئت إليكم، وأنا واضع قدمىّ فى أفغانستان والعراق، وأبناؤنا قد استقروا فى "إسرائيل"، وقواعدى فى الخليج، وفرقاطاتى تجوب بحاركم، ومحيطاتكم شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً تراقب الهواء كما تراقب الماء، تحاصر الممانـِع، وتفك الحصار عن الخانـِع..

جئت إليكم وفى يمناى سيف ذاق بأسها مئات الآلاف - بل والملايين - فى العراق وأفغانستان وفلسطين.. وفى يسراى بضعة ملايين من الدولارات اقتطعتها من عوائد آبار نفط الخليج حتى ينعم بها خدمنا وعبيدنا فى منطقتكم..rohh-shaked

"لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُرْسِيَ سَلاماً عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُرْسِيَ سَلاَماً، بَلْ سَيْفاً".. هذا السيف الذى يفرض سلام الأمر الواقع هو الذى أحمله بيمناى، وأحمى به كل من أطاعنا، وسار فى ركابنا، ورضى بالفتات من أحمالنا..

إخوانى وأخواتى المسلمين..

احتفلنا منذ سنين بسيطة خلت فى برشلونة بالذكرى الخمسمائة لخروج حضارتكم الوحشية نهائياً من أرضنا فى إسبانيا، وسنحتفل فى نهاية هذا القرن بالذكرى الألف لاستيلاء أجدادنا الصليبين على المدينة المقدسة "أورشليم"..

فلتعلموا أيها المسلمون - وأنا أتكلم من الأرض التى تحركت فيها جيوش حضارة متوحشة بائدة لاغتصاب الأرض المقدسة فى الزمن الغابر - أن التاريخ لن يتكرر، وأن الأمر الواقع قد فرض نفسه، وأن مستقبلكم كله بأيدينا، فأموالكم فى مصارفنا، ونفطكم تحت حراستنا، وأجواؤكم تحت رقابتنا، وأسلحتكم من خردتنا، وحكامكم من صنعنا..

إخوانى وأخواتى المسلمين..

إننى قد جئتكم وأنا أحمل بين يدىّ غصن الزيتون الذى قطعناه فى حيفا Obama_2 ويافا منذ ستين عاماً، ومازال فى أيدينا للعيش فى سلام على أرضكم، ومن خيرات بلادكم..

سلام تحميه قوتنا، وتموله أموالكم، وتنميه أفكار أبنائكم الذين أطعمناهم بأيدينا، وكسوناهم من خزانتنا، وأبرزناهم في وسائل إعلامنا المُمولـَة..

إخوانى وأخواتى المسلمين..

أنتظر منكم الكثير والكثير.. أنتظر منكم أن تلفظوا هؤلاء الذين لا يفهمون لغة العصر الجديد، ولا يسايرون الواقع، ولا يحترمون القوة، ويريدون أن يرجعوا بكم إلى الوراء، وأن يجروكم إلى مصير بائس محتوم..

إنى أنتظر منكم أن تتقدمونا فى قتال هؤلاء المجرمين الذى يريدون أن يؤثروا على علاقتنا الحميمية التى نمت وترعرت على مر السنين المائة الماضية..

إننى أرغب فى أن نتعاون سوياً فى التصدى لهؤلاء الإرهابيين الذين يكدرون صفو قواتنا التى قدمت لحمايتكم، وحماية نفطكم، وحكامكم، كما تقض مضاجع أبنائنا الذين قدموا من أوروبا ليطهروا الأرض المقدسة، وليعلموكم قيم الحضارة البشرية السائدة..

كما أرغب من مفكريكم الذين تربوا على الأفكار التقدمية، وعلى قيم الحضارة المنتصرة فى جامعاتنا، ومراكزنا أن يشاركونا حصار هؤلاء الذين يريدون أن يتمردوا على أفكار حضارتنا البشرية العظيمة التى قدمنا مستلهكاتها لكم ولأبنائكم على طبق من ذهب تعبيراً عن التلاقى، والتآلف بيننا وبينكم ..

أيها الإخوة والأخوات..

إننا اليوم فى مرحلة فاصلة تحتاج إلى تضافركم، وتعاونكم مع الحضارة البشرية المنتصرة، والتى تسود شرق العالم وغربه، وشماله وجنوبه..

إخوانى وأخواتى

إننى لم آت إليكم بحرب صليبية جديدة بل جئت إليكم بسلام صليبى جديد..

الثلاثاء، ٥ مايو ٢٠٠٩

حاجتنا إلى رجال

شاءت الأقدار أن يفارقنا علمان كبيران من أعلام الدعوة الإسلامية فى العصر الحديث؛ ففارقنا بداية العالم والمجاهد د. توفيق الشاوى، ثم رحل عنا الطبيب الداعية الإنسان د. حسان حتحوت.

وقد عمدت إلى قراءة ما استطعت الحصول عليه من إنتاج هذين الرجلين؛ لأتعلم منهما، وأعرف قدر جهادهما.

وقد أدهشنى فعلاً ما قرأت منهما، أو عنهما، من جهاد وتضحية، ونبل وكرامة، وأخلاق ودعوة.

قرأت – وما زلت أقرأ – سفر د. توفيق الشاوي “مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي”، كما قرأت ما كتبه الشيخ القرضاوى عن “أمة فى رجل”.

وقد هالنى أن يرحل أمثال هؤلاء فى صمت دون التفات، ولا انتباه.

ولكن أكثر ما شد انتباهى، وأثار شجونى سؤال ألح على خاطرى كثيراً: هل بين أبناء الدعوة الإسلامية حالياً أشباه لهؤلاء؟

إن كان حسن البنا قد ترك فى هذه الأمة – بشكل مباشر - رجالاً فى حجم محمد الغزالى، وسيد سابق، ويوسف القرضاوي، وعبد القادرة عودة، وتوفيق الشاوي، وحسان حتحوت، ويوسف ندا، وغيرهم الكثير ممن نشروا الإسلام – فكراً وعملاً – فى ربوع العالم كله شرقه وغربه، عربه وعجمه.

وإن كان حسن البنا قد قدم هؤلاء، وغيرهم، فماذا قدم الإخوان – تحديداً – للأمة فى هذه الأيام العصيبة التى تمر بها.

حاولت ان أستذكر اسم عالم، أو شيخ، أو اقتصادي، أو مفكر، أو حتى كاتب يشار إليه بالبنان فقلما وجدت.

فهل عقمت الدعوة أن تأتى بأمثال هؤلاء مرة أخرى؟

أم غابت الرؤى والمناهج التى تنتج قادة وعلماء جدد فى ميادين الحياة المختلفة؟

أم أن الحركة استنفذت الجهد والوقت؛ فلم تترك مجالاً للإبداع والابتكار؟

نظرة واحدة على أسماء قيادات الإخوان الحاليين، والتى تخلو من أى مفكر أو كاتب، أو عالم له وزنه واعتباره بين الأمة تشخص لنا حجم المأساة، ومدى عمقها، كما تقدم لنا مبرراً منطقياً لحالة الرمادية الشديدة التى تعيشها الجماعة.

إن الإخوان – بالفعل – هم الجهة الوحيدة المؤهلة – بعون الله – على إحداث تغيير جذرى فى هذه الأمة؛ لما يتمتعون به من قدرات عددية، وتنظيمية كبيرة لا ينافسهم فيها أحد فى مصر أو على امتداد الأمة بأسرها.

فالأمة فى حاجة فعلية إلى أطباء نابهين، وعلماء أفذاذ، ومجتهدين مخلصين، ومفكرين مبصرين كما هى حاجتها إلى دعاة ينيرون الدرب، وحركيين يجيدون التنفيذ.

أسمع عن رجال كانت تؤهلهم إمكاناتهم، ومؤهلاتهم لأن يكونوا على درب النوابغ السابقين، ولكنهم أُسروا فى قيد العمل التنظيمى، فخسرناهم مرتين..

أعرف أديباً تؤهله بلاغته وفصاحته أن يسبق فى مجاله، ولكن قيدَه خـَوَّفـَه من ترك الأَولى – الذى حدده له ضيقوا الأفق.

وأستاذاً فى الطب كان التلميذ النابه للدكتور/ أحمد شفيق – كما حُكى لى، فصار جراحاً عادياً؛ لاستهلاكه فى المسئوليات التنظيمية.

وأستاذاً فى الهندسة تأخر زمنياً فى تحصيل علم أحبه؛ لأن أستاذه أبلغه أن الدعوة – بمفهومها الضيق – أولى من تحصيل العلم والنبوغ فيه.

وهناك الكثير والكثير من الطاقات المعطلة، والنفائس المخزنة فى قيد غير محدد المعالم، أو الوجهة.

إن الإخوان يحتاجون إلى رؤى ومناهج جديدة تقدم للأمة ولا تخصم منها، يحتاجون إلى رجال يقودون الأمة ولا يتركونها فريسة يعبث بها كل لاه أو صاحب مصلحة.

كما أن الأمة أيضاً بحاجة إلى رجال يعملون فى نسق بديع، فيضحون بأوقاتهم، وعلمهم، بتجرد وإخلاص دون انتظار لمغنم، أو تحيز لعدو، ولن يتأتى ذلك بغير عمل منظم وموجَّه.

أدعو الله أن يرشد الأمة للصواب، وأن يستنقذها من براثن الجهل والتخلف والجور الذى تعيش فيه، وأن يقيض لها رجالاً يصدقون ما عاهدوا الله عليه.

الثلاثاء، ٢٨ أبريل ٢٠٠٩

فى عشة الدجاج

لم أجد تعليقاً، أو تحليلاً لما تمر به أمتنا من مآس خيراً من هذه القصيدة للرائع المرحوم – بإذن الله – الدكتور/ حسان حتحوت:

فى عشة الدجاج

Chicken House

فـى عشـة شرقيـة عاليـة السيـاج

وخلف باب مغلـق مستحكـم الرتـاج

كانت تعيش فى نعيـم أمـةُ الدجـاج

فى فيض رزق غدق وظل أمن سـاج

سمينـة معجبـة بشحمهـا الرجـراج

لاهيـة إلا عـن الطعـام والــزواج

والبيض والفقس والانبسـاط والمـزاج

شعب يقضى العمر فى أنس وفى ابتهاج

خلف زعامـات لـه منفوخـة الأوداج

من كل ديك عرفه يـُزرى بألـف تـاج

يصيح فيهـم بمثـل خـُطبـة الحجَّـاج

وينطق الزور بلا خـوف ولا إحـراج

فتثب الأمة بالتصفيق والهياج

فتزدهى الديوك فـى عاليـة الأبـراج

كأنها من زهوها الكباش فـى النعـاج

 

وداهمتها عرسـة فـى ذات ليـل داج

جلابة للموت كالفانتوم والميراج

مطفئة منهن نـار جوعهـا المُهتـاج

ما خطفـَتْ واحدةً فالقوم فـى انزعـاج

راثين صدَّاحين بالأشعـار والأهـزاج

باكين صيَّاحين بالشكوى والاحتجـاج

وركزوا اهتمامهـم بالقفـل والمـزلاج

وعادت العرسة من صدع على الزجـاج

 

وقام منها واحد فى مثـل لـون العـاج

يقـول إن داءنـا ليـس بـلا عـلاج

إن الصُّراخ والبـُكا جهد بـلا إنتـاج

لـدى رأىُ أنـا فيـه للخـلاص راج

فإن أطعتموه فالأزمة لانفراج

إن عادت العرسة تـُجبى باقىَ الخـراج

ثـُرنا جميعـا ثـورةً كهـادر الأمـواج

نوسعها نقرا كزخِّ المطـر الثجـاج

ونقذف العينيـن بالتـراب والعجـاج

فألف منقار على رأس ولو من صـاج

كفيلـة تـُرديـه بالنـزف والارتجـاج

 

صاحت به ديوكها من سائـر الفجـاج

ما هذه الطلاسم السـوداء والأحاجـى

أنت العميل الخائـن المولـع باللجـاج

لسنا الى رأيـك يـا دخيل باحتيـاج

لو كنت منا ما جهلت شيمـة الدجـاج

 

ليس الشجاع عادة مـن أهله بـِنـاج

وقد يكون الصـدق سلعـة بـلا رواج

جزاؤه وقع العصـا ولسعـة الكربـاج

والعمر فى غياهب السجن بلا إخـراج

الموت للمخلـص والإطفـاء للسـراج

تكررت بين الدجـاج قصـة الحـلاج