الأحد، ١٢ ديسمبر ٢٠١٠

كم "حُباباً" نحتاج

قد نعرف جميعاً الصحابي “الحباب بن المنذر” وما فعله يوم بدر حين أشار على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بتغيير المكان الذي اختاره كمنزل للمسلمين في ساحة القتال..

قد نعرف الموقف جميعاً، ونـُطنب في الحديث عنه، وعن دلالاته، ودروسه العظيمة..

ولكن..

كم مرة قمنا فيها بدور “الحباب بن المنذر”؟!

كم مرة شغلنا فيها أنفسنا بمحاولة اتخاذ رأي مسبق لرأي من يقودون المسير؟!

كم مرة حاولنا فيها التحليل المستقل، وإعمال العقل، واستغلال الخبرات لتصحيح قرار شابه الخطأ؟!

لم يكن “الحباب” من كبار الصحابة، ولم يكن من أهل الشورى؛ لأنه فوجئ بالمنزل الذي تم اختياره؛ فلم يمنعه ذلك من التعقيب على قرار الشورى الذي يرأس مجلسه نبي لا ينطق عن الهوى!

لم يقل “الحباب” ذلك سراً، أو في الخفاء خوفاً على اهتزاز ثقة الجند في قادتهم؛ وإلا ما دُوِّن موقفه في كتب السِّيـَر..

كان “الحباب” خبيراً بالمكان، وبالمعارك؛ فشجعه ذلك على الحديث، فتم الاستماع إليه، والأخذ برأيه؛ لأن الشورى لا يتساوى فيها أصحاب الخبرة مع فاقديها وإن علت منزلتهم..

كان “الحباب” شجاعاً حين طالب بتغيير المكان، والوقت وقت تنفيذ لا وقت تخطيط؛ لأنه يعلم صواب رأيه، كما أنه لم يخش اتهاماً بالتثبيط، أو بخلخلة الصف!

فعل “الحباب” ذلك لأن القائد كان “محمداً”، وأهل الشورى كانوا “أبا بكر وعمر وعلياً”..

هل لو وجدنا “حباباً” أو أكثر بأخلاقه، وأدبه، سنجد من يقتدي بقادته “محمد” وصحبه؟!!

لقد ربينا جنداً لا “حباب” فيهم؛ لأنهم اعتادوا انتظار رأي القادة حتى يؤيدوه، ويدافعوا عنه، بل ويهاجموا من يخالفه؛ لأنه فقط صادر عن القادة المُضحِين!!

كما ربينا قادة لا يسمعون “حباباً”؛ لأن الشورى لم تات بذلك الـ “حباب”..

وإن افتقدنا “حباباً” قبل الحرب؛ فهل من “حباب” بعدها؟

وهل كانت شورانا التي لم تسكت “حباباً” من قبل سليمة حالياً؟

وهل الشورى التي يسبقها توجيه وتأثير معنوي نحو رأي واحد سليمة حقاً؟

وهل الشورى التي تسمح لأصحاب الرأي المٌوجَّه باستخدام آيات قرآنية تؤيد حتمية اتباع موقفهم، وتستخدم آيات أخرى تصف أصحاب الرأي الآخر بأنهم يدعون إلى التولي يوم الزحف، شورى سليمة؟

وهل الشورى التي لا تعطي لأصحاب الرأيين المتعارضين نفس المساحة أمام أصحاب القرار سليمة فعلاً؟

وهل الشورى التي تستدعي نفس أهل الثقة في السياسة، والدعوة، والاقتصاد، والاجتماع، وغيرها دونما خبرة عملية فيما يدلون برأيهم فيه سليمة حقاً؟

وهل الشورى الانتقائية التي تتسع تارة، وتضيق أخرى سليمة فعلاً؟

إخواني.. أخواتي..

إننا حين نلوم القادة على عدم اقتدائهم بمحمد – صلى الله عليه وسلم - وصحبه؛ فإننا نلوم أنفسنا على عدم اقتدائنا بـ “الحباب” ومن ساروا على دربه..

الاثنين، ٢٥ أكتوبر ٢٠١٠

الأهداف الكبرى

Goals

لكل واحد منا أهدافه الكبرى التي يحلم بتحقيقها على المستوى الشخصي أو على المستوى العام..

ولكي تتحقق تلك الأهداف الكبرى (الاستراتيجية) لا بد لها من أهداف مرحلية تمهد لها الطريق، وتقرب إليها البعيد، وتذلل منها العسير.

وينبغي أن تكون الأهداف المرحلية واقعية، ومرنة كما ينبغي لها أن تكون محددة بوقت، وقابلة للتطبيق بعكس الأهداف الكبرى التي هي أقرب للأحلام منها للواقع؛ ونادراً ما ترتبط بوقت؛ لذا فإن الأهداف المرحلية هي الأكثر أثراً، والأكثر جهداً، والأكثر إنتاجاً.

وكما يندر من البشر من يضعون لأنفسهم أهدافاً كبرى، فإنه يندر من ذوي الأهداف الكبرى من يربطها بأهداف مرحلية، وكذلك يندر من هؤلاء من لا تشغله أحلامه (أهدافه الكبرى) عن واقعه (أهدافه المرحلية).

وما ينطبق على الأفراد، ينطبق أيضاً على الأمم والجماعات..

فالأمم والجماعات الحية تتفق على أهداف كبرى (المشروع القومي مثلاً) تحتاج لتحقيقها أهدافاً مرحلية واقعية تتسم بالمرونة وقابلية التطبيق..

ويفشل من هؤلاء، وأولئك من يعيش الحلم (الهدف الكبير) بكل كيانه، وأحاسيسه؛ فينسى الواقع وتعقيداته، ويتصلب فيما يحتاج المرونة، ويحاول تطبيق ما لا تتيحه الظروف، ويتشدد فيما يحتاج التيسير، وينشغل بالمرجوح عن الراجح، ويخلط الوسيلة بالهدف..

وغالباً ما يشغل الأعداء ذوي الأهداف – دون شعور منهم – بالقضايا الكبرى (الأهداف الكبرى)؛ ليغفلوهم عن التفاصيل والمراحل (الأهداف المرحلية)؛ فيستغرقهم الجهد في إثبات الوجود تارة، وفي الدفاع عن الفكرة تارة، وفي أهلية المشروع تارة، فيخرجون من هذه إلى تلك وهم مستنزفون مبتعدون عن أهدافهم المرحلية التي كانت حتماً طريقاً وحيداً لتحقيق الهدف الكبير.

والناظر إلى حال الإخوان في الفترة الحالية يدرك أنهم قد وقعوا أسرى الانشغال بالحلم، فغفلوا عن الواقع.

فإن كان هدف الإخوان الكبير هو إصلاح الأمة – كلها – وتحكيمها بشرع الله – الذي هو من حيث مقاصده حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فستبقى أهداف ذلك المرحلية هي: إصلاح الفرد، والأسرة، والمجتمع.

وإذا أردنا أن نقيس مدى قرب الإخوان أو بعدهم عن إصلاح الأمة (الهدف الكبير)، فلا بد أن نقيس مدى القرب من تحقق إصلاح الفرد، والأسرة، والمجتمع (الأهداف المرحلية).

والناظر المدقق في السلوك الفعلي للإخوان (كقيادة، وكأفراد) يدرك أنهم مشغولون بالحديث عن والترتيب للقضايا الكبرى (الانتخابات العامة، والشعار، والإصلاح السياسي، والتنظيم، والانتخابات الداخلية، والصراع مع الأمن، و…) بينما ينحدر الفرد، والأسرة، والمجتمع نحو الحضيض القيمي، والأخلاقي، والاجتماعي..

فمن منا ينكر أن المجتمع المصري (وكل مكوناته الأصغر) قد صار أسوأ حالاً مقارنة بعشر سنوات مضت؟

ومن منا ينكر أن التدين الحقيقي في طريقه للاختفاء، وأن التدين السطحي يحل محله بسرعة عجيبة؟ فيكثر النقاب، والجلباب، والسواك بينما تختفي المروءة، والشجاعة، والأمانة، والإحسان، ويكثر المصلون، وتنتشر الجرائم، ويكثر الحجاج والمعتمرون، ويكثر المرتشون والفاسدون، والغريب أن خلقاً كثيراً يجمع بين هذه المتناقضات؛ فتجد المصلي المهمل، والمعتمر المرتشي، والحاج الفاسد، وهكذا.

ومن منا ينكر انهيار التعليم، وضحالة الثقافة لمعظم الشباب؟ ونظرة واحدة على شباب الجامعات (المتدين وغير المتدين)، وعلى التعليقات التي تتذيل مقالات الرأي، وأخبار الصحف الإليكترونية تدلنا على مدى الجهل، والتخلف الذي يغمر شباب اليوم الضائعين التائهين المغيبين.

ومن منا ينكر تفسخ المنظومة الأسرية التي كانت حتى وقت قريب صمام الأمن للأسرة المصرية كلها؟ فمن شاب لا يستطيع الزواج إلى شاب لا يعرف ماهية الزواج، ومن زوج مسافر لطلب الرزق، إلى زوجة لم تشعر بالسكن كما أراده الله، ومن أسر تتزاوج لتتقارب فتتنافر، إلى …

ومن منا ينكر القسوة الزائدة لضباط الشرطة؟ ومن منا ينكر جشع أصحاب الأعمال (الصغير منهم والكبير)؟ ومن منا ينكر تلاشي إحساس المسئولين بالناس؟ ومن منا ينكر ضعف رجال العدل الجدد؟

أليس هؤلاء جميعاً نتاجاً لهذا المجتمع المتفكك يوماً بعد يوم؟

والإخوان في طريقهم ماضون؛ فلا يتوقفون لحظة ليراجعوا الدرب، وأهل الطريق!

وأهل الفساد يشغلونهم بالأضواء الباهرة، والأصوات الزاعقة، وهم في طريقم ماضون.

أقفلوا في وجوههم المساجد.. شبابهم يبتعدون عن المساجدون.. وهم في طريقم ماضون.

قل علماؤهم .. شبابهم لا يتفوقون، أفرادهم لا يقرؤون.. وهم في طريقهم ماضون.

انشغلوا بالدنيا.. قلت أخلاقهم، وهم في طريقهم ماضون.

انصرفوا إلى التنظيم.. ابتعدوا عن الناس، وهم في طريقهم ماضون.

أي طريق هذا؟ أهو حقاً صراط مستقيم؟

هل طريق ينحرف بأصحابه هو طريق الغاية فعلاً؟

هل طريق يبتعد برحله عن جيرانه.. عن أقربائه.. عن أبنائه.. عن إخوانه.. هو طريق لا يقبل المراجعة فعلاً؟

يا قومنا أفيقوا.. يا قومنا أفيقوا..

الأحد، ٢٠ يونيو ٢٠١٠

الطريق إلى الفوضى (7) – عجز الثقة

يتوق جل المصريين إلى التغيير؛ فالنظام البائس، وأسياده، وأذنابه لم يتركوا قرية إلا أفسدوها، ولم يروا شعاع ضوء إلا أخمدوه..

وحيرة الناس (الواعين) لم تعد في الفساد وأهله؛ لأن الفساد قد صار مقرراً يومياً في حياة مصر وأهلها، ولكن الحيرة الأكبر تكمن فيمن يزعمون السعي إلى التغيير، وأين هم؟ وماذا يفعلون؟

وكل العوامل الماضية التي أشارت إليها سلسلة المقالات تشير إلى الحاجة الملحة والعاجلة للتغيير؛ لأن التأخير في التغيير يعني المزيد من الانهيار، والتحرك البطيء يزيد من سرعة الاشتعال..

والناظر إلى قوى التغيير الحقيقية – حالياً - في مصر يصاب بإحباط شديد؛ فهي:

  • إما نخبة مثقفة تعيش في أبراج عاجية لا علاقة لها بالواقع الفعلي – وليس النظري – المعاش.. نخبة لم تستطع أن تجذب إليها المطحونين - وإن حاولت التحدث باسمهم.. نخبة تجيد التظاهر والظهور والمعارضة، بينما هي غير موجودة في حياة الناس التي تزعم السعي لتغيير حياتهم..
  • وإما شباب غض يحلم بالتغيير، ويسعى إليه، ويكابد تارة مع "كفاية"، وأخرى مع "البرادعي".. لكنهم لا يجدون من من يأخذ بأيديهم إلى الطريق، ويدلهم عليه.. تأخذهم الحماسة في عالمهم الافتراضي، ويحاولون نقلها إلى العالم الحقيقي؛ فتصدمهم قسوة رجال الأمن, وقلة حيلة النخبة المزعومة..
  • أما الفريق الثالث، وهو الأكثر عدداً، والأرجى قدرة على التغيير.. الفريق الموجود – تقريباً - في كل قرية، وحارة في ريف مصر، وحضرها.. الفريق الأكثر وضوحاً في الأهداف – العامة، والمتوافقة مع مزاج المصريين العام، وانتمائهم الحضاري.. الفريق الأكبر تجذراً في عمق التاريخ المصري الحديث، بما يمثله ذلك من تراكم للخبرات، وتنوع في الأعمار.. هذا الفريق – الإخوان المسلمون – يمثل حاله الآن علامة استفهام كبرى لكل الحالمين بالتغيير.

فالإخوان المسلمون – رغم كل ما ذكر من ميزات يتفردون بها – إلا إنهم غير جادين في التغيير، وأقصد بالجدية هنا جدية التغيير العملية، وليست النظرية؛ فالحديث عن التغيير يختلف عن العمل نحوه، والغايات تحتاج إلى وضوح رؤية، وخطوات عملية، وهما ما تفتقدهما الجماعة حالياً..

فالإخوان المسلمون – بوضعهم الحالي – منشغلون بالتنظيم مستغرقون في تفاصيله أكثر من انشغالهم بالشأن العام، ومشاكله، فالإخوان:

  • يستهلكون طاقتهم في ترتيب تنظيم ضخم دون ظهور لأثر هذا التنظيم – إلا في الانتخابات، أو الجامعات مع ما يعتري ذلك من مشاكل تبعدهم عن المجتمع أكثر مما تقربهم.
  • نظراً للاهتمام بالتنظيم؛ فإن الإخوان صاروا أكثر ميلاً إلى تربية الجنود التي تسمع وتطيع، أكثر من اهتمامهم بتربية القادة الذين يحتاجهم المجتمع للتوجيه والريادة؛ فصار الإخوان ينتظرون التكليف في كل صغيرة وكبيرة.. فالجندي منفذ جيد، إلا أنه يحتاج دائماً إلى من يأمره، وإلى الأمر الذي يحركه، أما القائد فإنه ذاتي بطبعه يسارع (بالمفهوم القرآني للتسارع)، ولا يتباطئ.. تحركه دوافعه الإيمانية على الفعل العام قبل الخاص، وعلى إغاثة الملهوف دون ادعاء حكمة، أو خوف اندفاع..
  • وقد أفرز هذا الاهتمام بالتنظيم قادة حركيين منغلقين، جعلوا من التنظيم هدفاً في حد ذاته؛ رغم أن التنظيم لم يوجد إلا للدعوة والانتشار، وللتغيير والنهوض، وأصبح جل هؤلاء القادة حاضرين عند الحديث عن التنظيم، وأهدافه، ولوائحه، ووسائله (راجع مقالاتهم في موقع إخوان أون لاين)، وغائبين عند الحديث عن المجتمع وهمومه ومشاكله؛ مما أثر في اهتمامات الجماعة وأولوياتها، وقراراتها.
  • يزدادون انغلاقاً على أنفسهم؛ فيكتفون – إلا من رحم ربك - بعلاقاتهم الداخلية الخاصة؛ فيعيشون عالماً منعزلاً – شعورياً – عن حياة الناس العامة؛ رغم أن أدبياتهم، وسير قادتهم السابقين – في عهدي التأسيس الأول والثاني – تخالف هذا السلوك الانغلاقي؛ إلا أن واقع الأفراد الحالي أكثر تدليلاً على هذا الانغلاق، وعلى هذه العزلة.
  • أدى هذا الانغلاق إلى الاقتراب فقط ممن يرجى ضمهم، أو جذبهم إلى التنظيم؛ مما أدى إلى مزيد من العزلة والاغتراب؛ فجل الناس لا يقدرون على العمل التنظيمي، وتبعاته، وقواعده، وأوامره ونواهيه؛ فأغلقوا على أنفسهم أبواباً كثيرة من الخير، وحرمتهم كثيراً من التعايش مع المجتمع الذين يسعون إلى إصلاحه!
  • كما أن الاهتمام بالتنظيم، والعزلة الشعورية، والقيادة الحركية تنفر من المبدعين، وتقيد حركتهم، فهم إما مقيدون داخل جدار التنظيم، مستهلكون في تفصيلاته، أو منزوون منسحبون؛ فينطفئ إبداعهم، ويخسرهم المجتمع، وإما هاربون من التنظيم؛ فيخسرهم التنظيم، والمجتمع أيضاً في أحيان كثيرة.

قد يرى كثير من الإخوان في هذا الحديث غمطاً لحق الإخوان، وإهداراً لجهدهم، وابتلائهم؛ إلا أن النقد هنا هو للواقع الذي يحتاج إلى تغيير، وتصحيحاً لأوضاع تحتاج إلى وقفات ووقفات ممن يملكون أدوات التغيير، ويعطلونها في مجتمع تتسارع خطوات انهياره يوماً بعد يوم.. في مجتمع يحتاج إلى من يعيش همومه، ويقوده نحو التغيير..

ولكي لا يكون الحديث عن الإخوان نقداً محضاً دون تقديم نصح أو بدائل، فسأحاول في نقاط محددة تقديم هذا النصح، لعله يشير إلى الخلل، أو يدل عليه..

  • فالإخوان في حاجة ماسة لأن يغيروا من وسائلهم التي تناطح السلطة أكثر مما تقترب من الناس؛ فالإصرار مثلاً على المشاركة في الانتخابات العامة في ظل هذا النظام الفاسد، وفي ظل هذا التزوير الفج يخصم من رصيد الإخوان أكثر مما يضيف إليهم، ويعطل طاقتهم، ويهدرها في تمثيلية ممجوجة يمارسها النظام بلا حياء؛ فقد صار الناس ينظرون إلى الإخوان بأنهم ساعون إلى السلطة – رغم عدم صحة ذلك، وأنهم جزء من المعادلة الفاسدة في مصر المظلومة. وعودة الإخوان إلى الدعوة، واستعلاؤهم على المنافسة السياسية، وبقاؤهم كمرجعية للأمة كلها لكفيل بعودة الصورة الصحيحة عن الإخوان، وعزل للنظام الفاسد، وفضح له..
  • وعودة الإخوان إلى الدعوة – بكل مجالاتها – سيزيدهم قرباً من المجتمع، والتصاقاً به؛ فيعيشون همومه، ويساعدونه على النهوض، والتغيير المنشود، ويأخذون بيده لينتشلوه من مستنفع الفساد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يعيش فيه؛ ويصيرون علامات يهتدي الناس بها في ظلمات الفوضي التي تحيط بهم من كل اتجاه..
  • كما أن عودة الإخوان إلى الدعوة تربي الإخوان أنفسهم التربية الصحيحة التي توجه المجتمع ولا تنعزل عنه، وتخالطه ولا تتشرب منه سيء صفاته.. التربية التي تجعل السياسة جزءاً من الدعوة لا كل الدعوة.. التربية التي تعود بالإخوان إلى القرآن، والدعاء، كما تعلمهم الوقوف في وجه الظالم، ونصرة المظلوم.. التربية التي تقدم منهم القدوة الصالحة التي يفتقدها الناس في غمرة يأسهم بإمكانية التغيير..
  • والإخوان في حاجة ماسة لأن ينفك عنهم قيد التنظيم؛ فيصبح التنظيم موجهاً لا محركاً، ومرشداً لا منظماً؛ فينطلقون في ساحات المجتمع، موجهين تارة، وتابعين تارة، واقفين في وجه الظلم تارة، وناصرين للمظلوم تارة أخرى، ويتخفف التنظيم من تبعات الحركة المنظمة التي تعيق الأعمال، وتقيد المنتمين، وتحفز الظالمين، وتزداد الذاتية عند الإخوان؛ فتزداد بالتبعية عند عموم الناس، ويقترب الإخوان أكثر من المجتمع بكل فئاته دون انتظار تكليف، كما يقتربون من الساعين إلى التغيير دون شبهة حسابات خاصة، أو اتهامات مرسلة..
  • والإخوان في حاجة لأن يضيفوا إلى رصيد المجتمع من الطاقات؛ فيهتمون برعاية المبدعين من علماء، وأدباء، وفنانين، وخطباء، وقادة، وأن يقدموا لهم يد العون للتفرغ لإبداعهم، وتوفير المسارات التي تظهر إبداعهم، وتنميه دون حساسية الانتماء إلى تنظيم، أو اتجاه سياسي يعيق إبداعهم؛ فنماذج القرضاوي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، ونجيب الكيلاني، وتوفيق الشاوي، وحسان حتحوت، وخالد عودة، وغيرهم في حاجة إلى استنساخ يتلافى أخطاء الماضي التي أشار إليها هؤلاء المبدعون أنفسهم..

هذه النصائح ما كنت لأتقدم بها إلا حرصاً على هذا البلد، وحرصاً أيضاً على القوة المنظمة الوحيدة – حتى الآن – والمالكة لآليات التغيير، والقادرة على قيادة المجتمع نحو هذا التغيير بمزيد من الجهد والمثابرة والإبداع والتعاون مع كل قوى المجتمع..

إخواني.. أخواتي

إن التاريخ لا يتوقف عند أحد مهما كان سابق جهده، وشأنه؛ فالله لا يحابي أحداً..

وللإخوان في نجم الدين أربكان عبرة أدعو الله أن يعتبروا منها..

الأحد، ٦ يونيو ٢٠١٠

الطريق إلى الفوضى (6) – الدعاة الجدد

az3410 ظل الأزهر طوال طوال مئات من السنين المنبع المتفرد، والمسار الوحيد لتلقي علوم الدين في مصر، كما أنه ظل المدرسة الوحيدة التي تخرج العلماء، والدعاة، والوعاظ..

وفي بدايات القرن العشرين، ومع ظهور الحركات الإسلامية، ظهر دعاة غير معمَّمين، حملوا الإسلام إلى الناس خارج المساجد تارة بالممارسة العملية، وداخل المساجد تارة أخرى بالوعظ والإرشاد؛ ولكن بقيت العلوم الإسلامية، وتخصصاتها الفقهية والشرعية محصورة في رجال الأزهر حتى داخل الحركة الإسلامية الحديثة..

واستمرت هذه الثنائية.. الدعوية المفتوحة، والتخصصية المحصورة – إلا فيما ندر – حتى نهايات القرن الماضي؛ فظلت المرجعية الفقهية والشرعية محصورة على رجال الأزهر، يستوي في ذلك الحركيون، وغيرهم..

وعندما انسحب الأزهر تدرجياً من الحياة العامة – بضعف خريجيه وارتباطه المباشر بالسلطة – بدأ نجم ما يسمى بالـ "الدعاة الجدد" في الظهور، والانتشار..

وهؤلاء "الدعاة الجدد" قسمان:

  • قسم يخاطب الشباب بلغة عصرية، وبلهجة عامية تسويقية دون معرفة علمية، أو تخصص دقيق؛ فيخاطب المشاعر والوجدان، لا العقول والألباب، ويسرف في الحديث عن الأخلاق، والقيم، دون تأصيل، أو تمحيص، مخاطباً الفرد، لا الأمة، ومقدماً للدين كحلية تتوسط متع الدنيا دون تعب تخلية، أو تحلية، ودون مشقة زهد، أو ابتلاء مستغلاً في ذلك الوسائل التقنية الحديثة من اهتمام بالصورة، وإبهار في الإخراج، دون تدقيق في المحتوى، أو تقييم للأثر..
  • أما القسم الآخر فعلى النقيض من ذلك؛ فهو متيم بالمعرفة، وحدودها، وشكلها.. مهتم بالحروف والمظهر، لا المعاني والجوهر.. يطلب من الناس الحنق على الدنيا وطيباتها.. يُزّهِّد الناس فيها، وفي خيراتها.. يحصر الخير – كل الخير – في اتباع من سلف دون سواهم، خوفاً من بدعة يضل بها أهل الدين.. ولا يفرق في ذلك بين جديد الدنيا، وبدعة الدين.. يجعل الدين طلاسم تحتاج دائماً لمن يفك شفرتها، ويحل ألغازها.

ورغم التناقض الظاهر بين الفريقين إلا أن نجومهما يشتركون في أمور عدة تتمثل في:

  • غياب الدراسة العلمية المنهجية، والاعتماد على العامة في التقييم، والإنجاز؛ فإن كان الفريق الأول لا يدعي علماً، ولا فقهاً؛ إلا أنه يرى أن لا حاجة ماسة له في التزود بالعلم الشرعي المنهجي الذي يضبط الأداء ويقوم العوج، ما دامت علوم التسويق والإعلام كافية في ازدياد الأتباع، وكثرة المريدين.. بينما يرى الفريق الثاني العلم كتاباً يقرأ، أو حديثاً يحفظ، أو درساً يسمع من شيخ ذائع الصيت، ولا حاجة عندئذ للدراسة المنهجية، ولا للأبحاث المُقيَّمة، ما دام العامة يهتفون بحياتهم، ويشترون خطبهم المسجلة، وما داموا يُنعتون من هؤلاء العامة بأنهم أعلم أهل الأرض دون حاجة لمؤهل عملي، أو رسائل "ماجستير"، أو "دكتوراة"، أو حتى لكتب يقوم على نقدها المتخصصون؛ فالعلم في نظرهم ما هو إلا درس يلقى، وأذن تسمع!
  • الانسحاب من الحياة العامة؛ فقضايا البطالة، وحقوق العمال، والمال العام، والفساد، وتزوير الانتخابات، وغيرها من القضايا العامة هي بالنسبة للفريقين قضايا لا تستحق التعليق، أو النصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وهي خارج دوائر الاهتمام؛ لأنها عند فريق عرَض لضياع الأخلاق، وهي عند الفريق الآخر أمور تخص ولي الأمر واجب الطاعة، ونصحه فيها يكون سراً لا علناً!!
  • السطحية الشديدة في الطرح؛ فرغم أن الظاهر يوحي بأن هذه التهمة هي للفريق الأول دون الثاني إلا أن التدقيق في الخطابين يؤكد أنهما يصبان في نفس الاتجاه، ألا وهو البعد عن العمق، والنواحي العملية في حل ما يحيط بالأمة من مشكلات؛ فالقضايا الكبرى للأمة يتجاهلها الأولون تماماً؛ لأنهم مشغولون بالبناء الفردي للشباب، والبنات، حيث لا وجود للضمير الجمعي في خطابهم الدعوي، أما الفريق الآخر فيرى أن العقيدة (النظرية)، والعلم المجرد هما المكونان الأساسيان لعودة الأمة، ولاسترداد أراضيها، ومقدساتها، ولا سبيل غير ذلك، وأذكر شريطاً مسجلاً سمعته لأحد هؤلاء في ذروة اقتحام القوات الأمريكية للأراضي الأفغانية عام 2001م، وهو يتحدث عن أحاديث الفتنة وآخر الزمان، وكيف أن الرسول أخبرنا بهذا، وأشار إلى ذلك، واستمرت الخطبة العصماء هكذا مخدِّرة في النفوس، داعية (ضمناً) إلى الاستسلام للمصير المحتوم؛ وسيأتي النصر لا محالة إذا ذهبنا إلى مساجدنا، واستمعنا لدروس علمائنا، وفهمنا عقيدتنا (النظرية)!!

ومن المؤكد أن هناك تباينات أكثر، واختلافات أشد بين الفريقين من الدعاة غير المتخصصين؛ إلا أنهم يمثلون حالة الرمزية لعموم الناس، الذين يتردون في الأخلاق، والمعاملات، والضعف، والانكسار، والذل والهوان.

وأمام ذلك التردي لا يتوقف كلا الفريقين عن طريقه الذي اختاره؛ فيراجع نفسه، ويراجع حال أمته التي انهالت عليها السهام من كل صوب، بل إنهم راضون فرحون بأدائهم، وأتباعهم..

وصحيح أن المستفتين يتزايدون، وأن مقيمي الشعائر يتكاثرون، والمساجد في ازدياد؛ ولا شك أن لهؤلاء، وأولئك دور كبير في ذلك؛ إلا أن الأمراض الاجتماعية تتغول، والفساد ينهش، والفقراء يزدادون فقراً، والأغنياء يزدادون غنى، وهؤلاء وأولئك غافلون، ويحسبون أن كلماتهم المتناثرة هنا، أو هناك تعفيهم من مسئولية الأمانة التي حمّلوها لأنفسهم..

ففي سنى عمري الأولى لم يكن هناك هذا العدد من الدعاة، ولم تكن هناك كل هذه الوسائل السمعية والبصرية التي تنقل الدروس والخطب؛ وبالتبعية لا أذكر أنه قد كان هناك كل هذا العدد من المعتمرين، والمنتقبات، والملتحين؛ إلا أن الناس كانت وقتها أكثر تراحماً، وأقرب وداً، وأنقى قلباً..

كان وقتها الموظف المرتشي نادرة يتندر بها الناس، وكذلك المدرس البليد، والعامل الكسلان، ورغم أن الفقر كان موجوداً؛ إلا أن الرضا كان مقروناً به يخفف من ألمه، ومن عذاب العيش معه..

ويطرح هنا سؤال نفسه: ألم يكن مشروع هؤلاء صلاح الأخلاق؟ فأين هذه الأخلاق التي تم إصلاحها؟ وألم يكن مشروع أولئك هو تصحيح العقيدة؟ فأين ذلك الإحسان الذي تستوجبه العقيدة، وأين ذلك الرضا وهو من أركان العقيدة؟ وأين تلك الشجاعة في مواجهة الفساد والباطل، وهي من صلب بناء رجال العقيدة؟

إن هؤلاء وأولئك ليجروننا إلى فوضى عظيمة، فوضى تخدير النفوس بكلمات تـُنقل إلى الأسماع، ولا تتحرك بها القلوب، أو تنفعل بها الأبدان.. كلمات جاء بها الدين ليوقظ النُّوَّم، ويستنهض الغافلين، لا ليغيب العقول، ويسترخي الأجساد..

إن ديننا عظيم، ولا يستحق حمل أمانته إلا من وعاه بقلبه قبل عقله، ومن مارسه بنفسه قبل دعوة غيره.. إن ديننا دين نهضة، ودين عزة، لا دين تخلف، وخذلان..

إننا بحاجة لدعاة عمل لا دعاة قول، وبحاجة لعلماء متخصصين منهجيين مجتهدين، ولسنا في حاجة إلى حفظة نقلة مُقلِّدين..

والناظر المتجرد لأمر الدعوة، والعلوم الشرعية، ولحملتها في الفترة الحالية ليدرك تمام الإدراك أنها قد أصبحت جزءً من الفوضى الخلاقة التي تستهدف الأمة وكيانها، فهل نحن منتبهون؟

إخواني.. أخواتي

كما ترفضون أن يداويكم غير الطبيب المتخصص، فلترفضوا أيضاً أن تتلقوا علوم دينكم من غير المتخصص..

وأن تمارسوا الدعوة بأفعالكم؛ وأخلاقكم خير لكم من أن تتلقوها من أهل التسويق والإعلام..

الاثنين، ٢٤ مايو ٢٠١٠

الطريق إلى الفوضى (5) – الفتنة الوطنية

الخواجة عزمي: تاجر الذهب، والقبطي الوحيد في مدينتي الصغيرة بمحافظة الدقهلية.

لم أشعر بأي بغض، أو تمايز في طفولتي، أو في صباي نحو هذا الرجل - الذي مات منذ فترة قصيرة – ولم يحدثني أحد من أهل بيتي – المتدين منهم وغير المتدين – بسوء عنه، أو عن عائلته التي كانت تعيش معه. كذلك لم يمتنع أحد من أهل المدينة الصغيرة – الصالح منهم والطالح – عن التعامل معه، بحجة أن الشراء منه حرام، رغم أن تجاراً آخرين من المسلمين في نفس البلدة كانوا يتاجرون أيضاً في الذهب..

كما أني أزهري منذ المرحلة الابتدائية عشت في صباي مع مسلمين فقط، ودرست مواد الدين الإسلامي المختلفة، ولم يغير ذلك من شعوري نحو ذلك الرجل المسيحي الوحيد في صباي.

ولم أر غضاضة أبداً – وحتى الآن - في الشراء من محل تاجر مسيحي، أو في التعامل مع مسيحي في علاقة زمالة، أو علاقة عمل عابرة كانت أم دائمة..

نشأت على ذلك، وأعتقد ذلك رغم أني أحسب أني متدين متمسك بديني وعقيدتي..

إلا أن مخطط "الفوضى الخلاقة" لا يريد أن يبرز هذه الصورة، ولا أن يعممها؛ فهو يهدف إلى إبراز النماذج الشاذة، والمواقف السيئة حتى يتحقق المراد، وتشتعل النيران..

فصرنا نسمع عن "الأقلية المهانة"، ونقرأ توصية بـ "رسالة إلى كل قبطي في مصر ـ حذاري من الأطباء المسلمين"؛ بما يشعرك أن دماء المسيحيين تسيل في مصر أنهاراً، وأن المسلمين يقتلون أطفال المسيحيين، ويستحون نساءهم، وأن المسيحيين لا يأمنون على أنفسهم، ولا على أولادهم، ولا يقدرون على أداء شعائرهم، أو الجهر بها!!

ووازى ذلك حديث قديم جديد عن حتمية إلغاء المادة الثانية من الدستور المصري – والتي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع؛ لأنها تهين الأقباط؛ لأن الدولة كيان اعتباري لا دين له (!!)، وكذلك الحديث عن حذف خانة الديانة من بطاقة الهوية؛ لأن الدولة المدنية علمانية بالأساس!! ولنا أن نسأل حينها "هل من شروط الوحدة الوطنية أن يكفر المسلمون بشريعتهم" كما يقول الشيخ الغزالي – رحمه الله – في كتابه: "قذائف الحق".

كما استدعي ذلك طلب بإلغاء لكل مظاهر التدين – الإسلامي – من الحياة العامة؛ فاستحالت مقدمة كتاب مدرسي تبدأ بكلمة "بسم الله الرحمن الرحيم" إلى طعنة في قلب الوحدة الوطنية! وصارت إذاعة القرآن الكريم تمييزاً عنصرياً!، وأصبح الاستشهاد على القواعد اللغوية بآية قرآنية إجباراً على دخول الإسلام؛ رغم أن دليل اللغة العربية الأساس هو القرآن، وتناسى الجميع أن "الحوار والعيش الواحد في الوطن الواحد بين أهل الدينين، لا يستقيم بغير احترام الخصوصيات والمشاعر والرموز والمقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية، ولا يقتصر ذلك على سلوك أبناء كل من الدينين تجاه الآخر، وإنما يعبر عن نفسه كذلك في وقوف الطرفين معاً ضد أي امتهان لمقدسات أي منهما أيا كان مصدره" كما يذكر د/ محمد سليم العوا في كتابه: "للدين والوطن: فصول في علاقة المسلمين بغير المسلمين".

واستتبع ذلك بالضرورة حديث عن مصر القبطية لا العربية، وعن المصريين الأصليين من غير الغزاة العرب الذين أجبروا أهل مصر على دخول الإسلام، وساموهم سوء العذاب! وارتفعت أصوات - كانت هامسة – بأحقية الأقباط في مصر، وطرد الغزاة منها، واستدعاء النموذج الأندلسي في أسبانيا، أو الإسرائيلي في فلسطين، وهو ما يستدعي بالضرورة أن نتساءل مع الشيخ الغزالي: " لقد كانت مصر وثنية فى العصور القديمة، ثم تنصر أغلبها، فهل يقول الوثنيون المصريون لمن تنصر: إنك فقدت وطنك بتنصرك؟
ثم أقبل الإسلام فدخل فيه جمهور المصريين، فهل يقال للمسلم: إنك فقدت وطنك بإسلامك؟"

واستلزم ذلك تزييف التاريخ، والتعمية على نقاطه المضيئة، والبحث بملاقط عن جملة هنا، أو مقطع هناك يتحدث عن اضطهاد يعيش في ظله المسيحيون منذ أربعة عشر قرناً من الزمان!! رغم أن التاريخ يقول – نقلاً عن كتاب "أهل الذمة في مصر" للدكتور/ قاسم عبده قاسم: "وبعد انتصار المسلمين استقدم عمرو بن العاص بنيامين وأمنه، فأخذ ذلك البطريرك – الذي قضى شطراً كبيراً من حياته – في نضال ضد البيزنطيين أعداء الأقباط المذهبيين – يعمل بلا كلل لتقوية الكنيسة اليعقوبية ويعيد تأسيس الأديرة والكنائس التي هدمت قبل الفتح الإسلامي، كما أرسل مطراناً جديداً إلى الحبشة، وكانت آخر أعماله تأسيس كنيسة جديدة للقديس مكاريوس في وادي النطرون (Butcher: The story of the Church of Egypt: vol. I, p. 383)".

كما صارت هناك نغمة سائدة عالية الصوت عن حقوق الأقباط المهدرة في الوظائف العليا؛ وكأن هذه الوظائف متاحة في الأصل لغير الأقباط (!)؛ رغم علم الجميع أن المناصب في الدول الاستبدادية – وبلدنا واحدة منها – حكر على فئة واحدة من ذوي المصالح القريبين من دوائر الحكم، والخادمين له؛ فالمحافظ، والوزير، ورئيس الجامعة، وعميد الكلية، ومدير الأمن، والعمدة لا يتم اختيارهم إلا بمقاييس أمنية قاصرة قد ترى في المسلم الفاسد مصلحة عن المسيحي النافع، أو قد ترى في المسيحي الطالح مصلحة تقدمه على المسلم الصالح.

إلا أن "الفوضى الخلاقة" تحتاج إلى توزيع طائفي للمناصب، لا إلى اختيار حر ديمقراطي.. ولا مانع حينئذ من زيادة ابتزاز الدولة التي صارت ضعيفة أمام جماعات الضغط الداخلي المدعومة من ذوي النفوذ الخارجي حتى تصير "الكوتة" أمراً مسلماً به حين تصبح مصر "عراقاً جديداً"!!

وتفرغت المنظمات الحقوقية القبطية المدعومة للدفاع عن الطائفة، لا للدفاع عن الوطن؛ وانصب جهدها في المطالبة بحقوق المسيحيين وحدهم رغم أن إخوانهم المسلمين محرومون من تلك الحقوق كذلك أو يزيد.

وجرت أقلام مسيحية ولا دينية هنا وهناك تطعن في الدين الإسلامي، وفي أهلية شريعته، وفي الطعن في ثوابته، وقيمه، بما يهيج العامة، ويزيد الاحتقان؛ فيزداد عمق الأخدود، وتعلو الطائفية حتى تحين ساعة الفوضى الموعودة!!

وصار هناك حديث ملتبس عن تكفير المسلمين لغيرهم من أتباع الديانات الأخرى؛ وسار في درب هذا الحديث كل من لا يعرف ديناً، ولا يلتزم بشريعة؛ رغم أن "أهل كل دين يرون غير المؤمنين بدينهم كفاراً بل إن بعض أهل المذاهب والطوائف في الدين الواحد لا يقرون بالإيمان لبعض أهل الطوائف والمذاهب الأخرى داخل الدين نفسه. وهذه خصيصة من خصائص العقائد الدينية، تـَمِيعُ الحدود بين الأديان إذا فقدتها، ويغدو الإيمان بالعقيدة لا معنى له إذا اعتقد صاحبها أن أهل العقائد المغايرة لها على الحق كله، أو على نوع منه، على الرغم مما بينها وبين عقيدته هو ومن تناقض او تضاد" كما يذكر د/ محمد سليم العوا في كتابه سالف الذكر..

كما علا الصوت – تبعاً لذلك - بأن المسلمين يستحلون دماء وأموال وأعراض الكفار من غير المسلمين، ليتم إلباس الحق بالباطل؛ فينخدع غير المسلمين؛ فيرون أن المشكلة في الإسلام ذاته لا في المسلمين الجهّال؛ مع أن كل من له دراية بسيطة بالدين يعلم أن "قضية الإيمان والكفر – هي قضية أخروية – لا يترتب عليها عداوة ولا إباحة دم ولا مال ولا عرض. نعم لو حاربنا قوم على الدين – أو على غيره – حاربناهم، ولو غزونا قاومناهم؛ لا بسبب اختلاف الدين بل بسبب العدوان. وشتان ما بين الأمرين أو الحالين." كما ذكر أيضاً د. محمد سليم العوا.

إنني لا أزعم أن الأمور على ما يرام، أو أن الطائفية تخرج أدرانها من طرف واحد فقط؛ ولكني أزعم أن حقوق الجميع منقوصة، وأن المتمسكين بالسلطة لا يشغلهم إلا البقاء في كراسيهم سواء كان ذلك على حساب هذه الجهة أو تلك..

كما أني أزعم أن ليس للمسلمين جهة رسمية تتحدث باسمهم نستطيع أن نوجه لها اللوم في حديث هنا، أو حدث هناك؛ بعكس المسيحيين الذين تتحالف قيادتهم الرسمية مع النظام الفاسد في العلن في الانتخابات، بنفس القدر الذي تستغل ضعفه في الضغط عليه للحصول منه على مزيد من المكاسب الطائفية.

وإن كنت أزعم أن المفكرين الإسلاميين الكبار (أمثال أ. فهمي هويدي، والشيخ القرضاوي، ود. محمد سليم العوا، وغيرهم) ينتفضون حين يتم تسويق فكرة مغلوطة، أو ترتكب أعمال إجرامية في حق الأقباط؛ في حين أن كبار الكنيسة يزيدون البنزين على النار كما فعل الأنبا توماس عضو المجمع المقدس وأسقف "إبراشية القوصية" حين قال في محاضرة له بالولايات المتحدة الأمريكية: "أن أكبر معضلتين تواجهان المجتمع المسيحي في مصر هما "التعريب" و"الأسلمة"، وأن القبطي يشعر بالإهانةِ إذا قلت له إنك عربي، مضيفًا: "أننا لسنا عربًا ولكننا مصريون، وأنا سعيد لكوني مصريًّا وإن كنتُ أتكلم العربية، ومن الناحية السياسية فإنني أعيش في ظل دولةٍ تم تعريبها وتنتمي إلى جامعة الدول العربية، ولكن ذلك لا يجعلني عربيًّا"، ويقول أيضاً: "أن الأقباط المصريين يشعرون بالخيانةِ من إخوانهم في الوطن "؟"، كما أنهم أدركوا أن ثقافتهم ماتت، ووجدوا أن عليهم أن يحتضنوا هذه الثقافة ويحاربوا من أجلها، حتى يحين الوقت الذي يحدث فيه الانفتاح، وتعود الدولة إلى جذورها "القبطية"، وفي المناخ الراهن فإنه لا يمكن تدريس اللغة القبطية التي هي اللغة الأم لمصر في المدارس العامة، في حين تسمح نظم التعليم بتدريس أي لغةٍ أجنبية أخري." (نقلاً عن مقالة للأستاذ/ فهمي هويدي بجريدة الدستور عدد 22/7/2008).

وأزعم أيضاً أن المسيحيين يزدادون اصطفافاً في خندق منفصل عن إخوانهم في الوطن؛ فصارت منتدياتهم، ونواديهم، ومسارحهم، واجتماعياتهم، وألعاب أولادهم كلها مرتبطة بالطائفة، وصاروا يتلقون الأوامر الصريحة من قادة كنيستهم فيمن ينتخبون، أو متى يتظاهرون، أو فيم يغضبون؛ حتى صارت جل دوائرهم طائفية تستغني عن الآخر، ولا تحتاج إليه!!

إن ما يحدث في مصر الآن من جهل بعض المسلمين بتعاليم دينهم؛ مما يؤدي إلى الإساءة لشركائهم في الوطن، وما تقوم به بعض جهات الطرف الآخر الداعمة لتكرار النموذج الأمريكي الطائفي في العراق بما يعيد إنتاجه في مصر لهو مقدمة واضحة للعيان للفوضى الخلاقة التي يراد لمصر أن تعيشها في الفترة القادمة..

ولا حل لإنقاذ مصر من هذا الخلل، ولحمايتها من هذا العبث، ولاستعادة حق كل مظلوم أياً كان دينه إلا بتطبيق القانون على الجميع سواء بسواء، وبالحرية الكاملة لأهل هذا البلد العظيم لإدارة وطنهم باختيارهم الحر المباشر بعيداً عن فساد الفاسدين، وبطش الظالمين، وبعيداً أيضاً عن أطماع الطامعين..

إخواني.. أخواتي

إن اشتراك البعض في مخطط تفتيت مصر، وتحويلها إلى دولة طائفية لخيانة عظمى تستدعي الأخذ على يد المشارك فيها متآمراً كان أما جاهلاً.

الثلاثاء، ١٨ مايو ٢٠١٠

الطريق إلى الفوضى (4) – العلمانيون السلطويون

elmanyah قسم د. معتز عبد الله عبد الفتاح في كتابه القيم "المسلمون والديمقراطية: دراسة ميدانية" العلمانيين من زاوية تعاملهم مع الديمقراطية إلى قسمين هما: العلمانيون السلطويون، والعلمانيون الليبراليون.

ورغم أني لا أرى أملاً في نهضة هذه الأمة بالسير في طريق العلمانية ليبرالية كانت أم سلطوية؛ إلا أني لا أخفي احترامي للعلمانيين الليبراليين؛ لأنهم منسجمون، ومتسقون مع ما يؤمنون به من أفكار..

فالعلمانيون الليبراليون – كما يرى د. معتز عبد الله عبد الفتاح – "يرفضون السماح بأية حدود على حق أي فرد في أن يكون جزءاً من التنافس السياسي. لذلك فإن هدف نقدهم ومعارضتهم الأول ليس الإسلاميين، ولكن معركتهم الأساسية مع قادة الدولة المستبدين سواء كانوا إسلاميين تقليديين أم علمانيين سلطويين".

أما العلمانيون السلطويون فإنهم "يفضلون حكومة مركزية قوية تحمي وحدة الدولة، حتى لو لم تكن ديمقراطية."، كما أنهم يتبنون مقولة "إن الإبقاء على الوضع القائم مع أنه غير ديمقراطي، أفضل من خطر الديكتاتورية الدينية التي ستنتج من الثقة الساذجة في احترام الإسلاميين للديمقراطية".

ويؤكد الواقع أن هؤلاء العلمانيين السلطويين هم السبب الأساس في تخلف مصر (وباقي البلاد العربية والإسلامية)؛ فقد استلموا السلطة من الاحتلال الأجنبي، وسيطروا على كل منابع الثقافة، والإعلام الرسمية منها، وغير الرسمية، وعلى أيديهم درنا في دائرة تخلف سياسي، واقتصادي، وفكري، وعلمي، وثقافي؛ فلم نلحق بالغرب علمياً، ولم نحافظ على قيم الشرق اجتماعياً..

وهم دائماً جزء من تلك السلطة الغاشمة إما بالانتماء المباشر لها، أو بالتعمية عنها وعن جبروتها، أو بشغل الناس بمعارك وهمية لقضايا فرعية لا تشغل إلا عقولهم، وأدمغتهم الفارغة..

وهم يرون أن تركيا العلمانية المتخلفة تحت حكم العسكر أفضل بكثير من تركيا المتقدمة الديمقراطية المتسامحة مع الدين، وكذلك يرون أن أنهار الدماء التي سالت في الجزائر بسبب وقف الانتخابات خير من تسلم الإسلاميين للسلطة!!

كما أنهم لا يعترفون بهوية لهذه الأمة، ولا يرون أن لها امتداداً جغرافياً كان أو تاريخياً إلا مع الحجارة الفرعونية التي لا قوام حضارياً لها فكرياً، أو ثقافياً؛ إلا أنهم يؤكدون الانتماء إليها نكاية في أعدائهم الوحيدين الذين يرون هوية الأمة عربية إسلامية..

كما يرى هؤلاء العلمانيون السلطويون أن التغريب هو المنهج الوحيد الصالح، كما قال كبيرهم سلامة موسى: "فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا.. ونجعل فلسفتنا وفق فلسفته"، كما أنهم يرفضون الدين رفضاً قاطعاً (أو تركه في المنزل أو المسجد على أحسن تقدير): "ليس للإنسان في هذا الكون ما يعتمد عليه سوى عقله، وأن يأخذ الإنسان مصيره بيده ويتسلط على القدر بدلا من أن يخضع له".

وقد يشط بعضهم فيسرف في اتهام الدين، وصاحب رسالته بالكذب، والسرقة من الجد الفرعوني؛ فيقول أحدهم: "عرفت أن خالى.. ليس بخالى.. إنما هو راعى غنم.. خدعنى وكذب علىَّ حتى صدقته.. عرفت أن جدى.. هو أول من علم هذا الكذاب أن هناك حياة بعد هذه الحياة، وأن هناك عدالة اسمها ماعت، وأن هناك حساباً، وثواباً، وعقاباً... وأن هناك جنة وناراً، وكان هذا الخال الكاذب يؤمن بأن الأرواح تذهب إلى أرض الظلمات.. أرض «شيول». عرفت أن جدى كان أول من وضع قانوناً للأخلاق أسمى بكثير من قوانين هذا البدوى «برستد» كما أنه كان أول من وضع قانوناً لحقوق الإنسان «حور محب»".

كما أن هؤلاء يرون في الانحراف الأخلاقي مستلزماً أساسياً من مستلزمات اللحاق بالغرب، والتبعية له، كما ينقل الشيخ الغزالي في كتابه "من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث" عن جريدة "الأهرام" في رسالة نشرتها للدكتور/ مصطفى الديواني: "… لماذا لا نراجع أنفسنا وقوانيننا في حدود التطور العالمي الخلقي؟ فللشباب ثورته، ولا مفر من مهادنته بطرق محتشمة حتى يزهد في المرأة عندما يراها في متناول يده!".

وهؤلاء السلطويون لا يستحون من التنقل بين الاشتراكية والرأسمالية، ومن الشمولية إلى الليبرالية، ما دام ذلك يبقيهم قريبين من السلطة، ومنافعها، وملذاتها؛ فقد كانوا في العهد الناصري اشتراكيين تقدميين، ثم صاروا في العهد الساداتي رأسماليين انفتاحيين، ثم هم الآن مع الاستقرار والجمود في عهد الاستقرار والجمود..

ينهلون دائماً من خير هذا البلد؛ فيتولون المناصب الثقافية، والصحافية، والإعلامية، ويحصلون على الجوائز التقديرية والتشجيعية؛ فيحصلون على الآلاف والملايين، والجاه، والشهرة؛ ثم يدعون أنهم قادة الثقافة والفكر لهذا المجتمع الجاهل المتخلف (!!) الذي لا يعرف مصلحته، ولا طريق نهضته.

وهم لا يشاركون أبداً في الهجوم على الاستبداد؛ بل لا يمانع بعضهم في مدح المستبدين؛ فقضيتهم الأساسية مهاجمة استبداد القرون الإسلامية الأولى (!!)، ولا يرون بأساً في السلطات الإلهية الممنوحة للحكام؛ لأنهم مشغولون بنقض الدولة الدينية المرسومة في أذهانهم، كما لا يهزهم إعدام مفكر أو معارض إسلامي بمحاكم استثنائية بدائية؛ لأنهم يبحثون في عدم صلاحية الشرع الإسلامي للدفاع عن الحرية الشخصية!!

وتمكين المرأة هو قضيتهم الأساسية رغم أن لا حقوق في هذه البلاد للرجال ولا للنساء، ويحاربون الختان رغم أن مشروع إخصاء الأمة كلها يتقدم حيناً بعد آخر، ويدعون إلى حرية المرأة، رغم أن هذه المرأة لا تجد أصلاً من يسد رمقها ورمق عيالها!!

هم – في النهاية – معاول هدم مشغولة بالهدم لا بالبناء، وبالتخريب لا بالتعمير، وبالسفسطة لا بالعلم.. هم أذناب لمشروع غربي صهيوني لا يريد هذه الأمة إلا راكعة مكسورة، وخاضعة منهزمة؛ لتسير في الركب تنتظر الفتات لا في المقدمة قائدة للإنسانية..

إخواني.. أخواتي

إن نهضة الأمة تعتمد أساساً على اعتزازها بهويتها، والبناء على ثقافتها وتاريخها، ولن تقوم لنا قائمة، ولن نرى نهضة أبداً إلا انطلاقاً من هذه الهوية التي كنا بها يوماً قادة للعالم أجمع..

الأحد، ١٦ مايو ٢٠١٠

الطريق إلى الفوضى (3) – توك شو

small5200961683712010703656 استبشر كثير من الناس ببرامج استعراض الكلام "Talk Show". ورأوا فيها مساحة جديدة للحرية، والنقاش حول الهموم اليومية للمصريين.

وتنوعت هذه البرامج، وازداد عددها بشكل مطرد حتى أصبح لكل قناة مصرية برنامجاً يومياً خاصاً يغطي فترة السهرة، فيطرح مشاكل مصر، وأخبارها في شكل تقارير مصورة، أو مكالمات تليفونية، أو حوارات، أو مناظرات مباشرة.

ولكن الناظر المدقق لهذه البرامج بعد طول أمدها يجد أنها قد أصبحت صورة جديدة من صور الفوضى التي تعصف بالمواطن المصري منذ خروجه من بيته، مروراً بقضاء مصالحه، وأداء عمله، نهاية بعودته إلى منزله، وجلب تلك الفوضى إلى غرفة نومه من خلال برامج الرغي المباشر اليومية المسماة بالـ "توك شو".

وقد برع أحد الكتاب في إيجاد تسمية حقيقية معبرة عن هذه البرامج؛ فأشار إليها بأنها برامج "التوك توك شو"؛ لما تتمتع بها من فوضى شبيهة بما تحدثه وسيلة النقل الحديثة (!) ثلاثية العجلات والمسماة بالـ "توك توك".

ورغم السمو الظاهري لفكرة هذه البرامج من حيث أنها تعرض الصورة الحياتية لمشاكل الشارع المصري؛ إلا أن الممارسة الفعلية تؤكد أنها لم توجد إلا لتؤدي وظيفة جديدة في طريق المصريين إلى الفوضى، فهي:

  • برامج إعلانية – في البداية والنهاية – تستغل معاناة الناس في جلب مزيد من دقائق الإعلان، وأموالها إلى جيوب أصحاب القنوات، أو مموليها الحقيقيين.
  • تقدم الصور الشاذة الغريبة، وتسلط الضوء عليها بشكل مثير (مثل مهزلة شوبير – مرتضى، والكومي – العنزي، وهشام – سوزان، وغيرها).
  • تثبت فساد النظام المصري بصورة جديدة مبتكرة؛ وذلك من خلال ادعاء الحياد في طرح قضايا الفساد، والاستبداد؛ فيظهر الفاسد في صورة جميلة منمقة مدافعاً عن نفسه، وعن فساده مقابلاً لمحامٍ، أو محترف للظهور الإعلامي؛ فيتناقشان، ويتناوشان عن قضية فساد ظاهرة للعيان، وذلك باعتبارها وجهات نظر. وبالطبع تتأصل هذه الصورة في ذهنية المشاهد في ظل غياب قسري للمعلومة الموثقة؛ فيصبح أمر الفساد حديثاً للتسلية، والترويح عن النفس (!!).
  • تقدم مسكنات موضعية تحول طاقة الغضب الموجودة عند الناس إلى طاقة كلامية - فالطاقة لا تفنى - لا تقدم، ولا تؤخر.. ولا تصنع مستقبلاً أفضل، ولا تغير من واقع أسوأ.
  • تؤكد على أن السياسة في مصر ما هي إلا تفاصيل الحياة اليومية؛ فيكون النقاش حول الحصول على رغيف الخبز المدعم أولى من التحقيق الجدي حول تناقص المساحة المزروعة في مصر، واعتمادنا الكلي على استيراد القمح، ويكون الصراخ لغياب أسطوانة الغاز "البوتاجاز" أكثر أهمية من محاولة معرفة سر تصدير الغاز لعدونا الاستراتيجي (!) بسعر مدعم، وهكذا.
  • تصنع وتبرز نجوماً وهميين فارغين لا يقدمون قدوة حقيقية للمصريين؛ بما يعلي من قيم الفهلوة، والمحسوبية؛ فيصبح لاعبو الكرة، ورواد الملاهي، وصحفيو الأمن مفكري مصر، وقدواتها، ومحط أنظار أهلها.
  • تعمق السطحية الشديدة في مناقشة القضايا الحيوية والخطيرة التي تؤثر على الشارع المصري؛ فتغيب التحقيقات الجادة، والمناقشات الرصينة، وتظهر "الساندويتشات" سريعة التجهيز، و"الإفيهات" الركيكة؛ فقضية الفساد المنظم التي تقوض الحياة العامة في مصر تصبح مادة للرغي والرغي الآخر، وليس كما طرحها مثلاً د. عبد الخالق فاروق في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة؛ من خلال وثائق وأرقام بما يستدعي محاولة الفهم، والمعرفة العلمية الدقيقة، وبما يفضح الفاسد، ويكشف ألاعيبه.
  • تقدم غوغائية شديدة في التعامل مع قضية الوطنية، والخلاف مع الآخر (العربي فقط)؛ فيتم إظهار قضايا اللهو، وأصحابها على أنها وأنهم ممثلو الوطنية الحصريون؛ فيصبح ركل الكرة، والتمثيل السينمائي قضايا وطنية تستدعي التعصب، والتشنج، وتستلزم قطع أواصر مئات السنين بيننا وبين إخوة لنا في الدين والقومية والجغرافيا، وما قضية الجزائر عنا ببعيد.
  • تصرف المصريين عن قضايا الأمة، وتعمق فيهم مبدأ "مصر أولاً"، مما يؤدي إلى تحقيق رغبة النظام المصري التابع في عزل مصر عن محيطها العربي والإسلامي الذي يضيف إليها ولا يخصم منها؛ فقضايا فلسطين والعراق والسودان والصومال وغيرها لا تعالج إلا من خلال ما يحدث للمصريين فيها – إن نوقشت - ولا تناقش من خلال أنها قضايا العمق، والبعد الاستراتيجي الحقيقي لمصر.

قد يرى البعض مبالغة في هذه النقاط، وقد يراها مغرقة في نظرية المؤامرة؛ إلآ أني أتحدث هنا عن النتائج لا عن المقدمات..

كما أننا نعرف جميعاً أن القنوات الخاصة المصرية مملوكة لرجال أعمال ترتبط مصالحهم بشكل مباشر بالنظام المصري، وأركانه؛ لذا فإن ادعاء البطولة، والاستقلالية وهم كبير قد يلهينا عما وراء الصورة وما تحويه من تفاصيل..

إن هامش الحرية المزعوم ما هو إلا حرية نباح، محسوب الخطوات، ومحدد القسمات.. له دور مرسوم من أجهزة داخلية أو خارجية تلعب في عقول الفارغين الذين ينتظرون دائماً من يملأ عقولهم، ويلعب بعواطفهم..

إخواني.. أخواتي

اقرأوا كي لا تكونوا مطية الساعين إلى الفوضى.

الأربعاء، ١٢ مايو ٢٠١٠

الطريق إلى الفوضى (2) – اختيار الأسوأ

fasadسردت كتب الجاسوسية حكاية مشحونة بالدلالة تقول إن المخابرات المركزية الأمريكية جندت مسؤولا كبيرا في الاتحاد السوفيتي المنهار، كانت كل القرارات تنتهي إليه فيمررها أو يوقفها إلي الأبد، ولم تطلب منه أن يمدها بمعلومات أو خطط عسكرية، بل فقط أن يختار الأسوأ من بين كل قائمة تعرض عليه للمرشحين لشغل المناصب والمواقع القيادية والمهمة في البلاد، وبهذا سقطت الإمبراطورية التي كانت تمتد من ألاسكا إلي حدود اليابان، ومن القطب الشمالي حتي عمق القوقاز وآسيا الوسطي.

وقد نفهم فساد المسئولين السياسيين، وقد نستطيع أن نحلل أسباب اختيارهم؛ لأن الولاء المطلق في الأنظمة الشمولية – كما النظام المصري – هو المعيار الوحيد في اختيار المسئولين السياسيين.

وقد يفسد السياسيون، وتبقى الدولة قوية محافظة على هيبتها، ومتقدمة في مجالات عديدة علمية، أو ثقافية، أو رياضية، أو اقتصادية، أو غيرها – كما الحال في البلاد الشيوعية السابقة، وكما هو الحال في الصين حالياً؛ لأن معيار الكفاءة يبقى هو الأصل في عملية الاختيار للمسئوليات غير السياسية في مفاصل الدولة، وحركتها النهضوية (الجامعات، ومنابع الثقافة، والبحث العلمي، والمؤسسات المدنية، والدينية، و…).

أما أن يكون الأسوأ (بأفعل التفضيل) هو الاختيار الأول في كل المجالات والمواقع السياسية، وغير السياسية؛ وأن يستمر ذلك عشرات السنين؛ حتي صار الأسوأ الحالي أسوأ من الأسوأ السابق؛ وهكذا؛ فإن هذا لدلالة خطيرة على قرب وقوع الفوضى التي يخطط لها أعداؤنا منذ زمن بعيد..

لقد كان النظام الملكي في مصر فاسداً؛ بساسته، ومستشاريه، لكن لم يظهر هذا الفساد في الجامعات، أو المراكز البحثية، أو المعاهد العلمية، أو المؤسسات المدنية، والدينية؛ لأن قادتها كانوا الأكفأ؛ مما أثرى الحياة في مصر، وكون لها قاعدة صلبة من القادة، والعلماء، والمفكرين الذين حفظوا لها ريادتها (الناعمة على الأقل) بين الأمم..

ثم جاء النظام الناصري، وبدأت معايير الولاء والثقة تزيد عن معايير الاستقلالية والكفاءة، ثم تدهورت الأمور تدريجياً في العصرين التاليين حتى صار "كمال الشاذلي" رئيساً للمجالس القومية المتخصصة!! وصار رؤساء تحرير الصحف القومية من أمثال صاحب نظرية "طشة الملوخية" في الخدمة القومية، وصاحب الغزل في "لحم البعرور والبقلاوة بعجينة اللوز" أثناء حرب لبنان 2006.

ومسابقة الأسوأ لرؤساء الجامعات المصرية تصب قطعاً في مصلحة رؤساء العقد الأخير، وكذلك الحال في حالة عمداء الكليات، ورؤساء المراكز البحثية، والمناصب القضائية، والمؤسسات المدنية، والدينية، ومديري الإدارات التعليمية، وحتى المجالس المحلية، والعمد والمشايخ، وغيرها.

وحتى على مستوى رؤساء وقادة الأحزاب (المعارضة فرضاً) نجد أنك تنحدر من أمثال فؤاد سراج الدين، وخالد محي الدين، وإبراهيم شكري إلى زعامات جديدة مدجنة تفتقد الروح، والحياة، والشخصية..

وقد أشرت سابقاً إلى حديث د. جلال أمين عن شخصية رفعت المحجوب (رئيس مجلس الشعب السابق)، ورأيه فيه؛ وكيف أنه تولى هذه المنصب؛ لأنه الأسوأ؛ إلا أن مقارنة سريعة بينه وبين خلفه صاحب النظرية الفذة في تقليل سنوات التعليم المصرية؛ وصاحب نظرية إدارة حضانة مجلس الشعب الحصرية، تؤكد لنا أن منحنى سوء الاختيار ينحدر بسرعة أشد مما نتخيل.

إن الأنظمة الفاسدة الضعيفة تحمي نفسها دائماً بإحاطتها، وحماية مصالحها بأدنى الناس منزلة، وأعلاهم تملقاً؛ فهي لا تحتمل رؤية صاحب رأي؛ لأنها أضعف من أن تقنعه؛ وأخوف من أن تطمئن إلى استقلاليته؛ فتبحث عن المسوخ، وأصحاب العقول الفارغة؛ لأنهم يرون السلطة أعلى منهم، ومن قدراتهم؛ فيلتصقون بها، ويغترفون من كنوزها؛ فتصبح المصلحة متبادلة بين ضعيف، وأضعف منه، وفاسد، وأفسد منه، وغبي، وأغبى منه!!!

ولكن هذه الأنظمة لا تدرك أنها بفعل ذلك تجر بلادها إلى طريق الفوضى؛ لكي تسلمها في النهاية طرية لينة ليد أعدائها..

إخواني.. أخواتي..

فليحاول كل منا أن يرفض تولى الأسوأ زمام إدارته المباشرة؛ لأن الأشد سوءاً قادم لا محالة إن استسلمنا لأصحاب السوء أولئك..

الاثنين، ١٠ مايو ٢٠١٠

الطريق إلى الفوضى (1) – نظام الـ "يوترن"

343px-U-turn_svg "يو ترن"، أو "لف وارجع تاني" طريقة مرورية تستخدم على نطاق ضيق في العالم أجمع في الطرق السريعة، أو في طرق خاصة لا يمكن فيها استخدام إشارات المرور.

وشاءت العبقرية النظامية المصرية أن تستبدل تلك الطريقة ذات الاستخدام المحدود بطريقة إشارات المرور المعروفة عالمياً؛ وتعممها على كافة الطرق في جمهورية مصر العربية؛ ليكون ذلك تعبيرا دقيقاً عن واقع النظام المصري نحو الشعب الذي يتحكم فيه..

فنظام الـ "يو ترن" المصري:

  • لا يعترف بحقوق المشاة؛ فعلى المشاة دائماً نطق الشهادتين حين اتخاذ القرار الجريء بعبور الشارع للجهة المقابلة؛ وهم هنا يمثلون سكان مصر الأخرى الذين أهملهم النظام؛ فهم ينطقون بالشهادتين أيضاً حين دخولهم إلى مستشفى حكومي، أو قسم شرطة، أو حين يأكلون طعاماً مسرطناً لا بديل لهم عن ابتلاعه؛ لكي يعبروا سريعاً إلى الطريق المقابل (الدار الآخرة).
  • لا يعترف بفكرة إشارات المرور؛ فيعبر كل سائق سيارة طريقه 49938 بالفهلوة، والتناحة، والتضييق على الآخرين؛ أي "كله ياخد حقه بدراعه"، وهو ما يعبر عنه النظام بتغييب القانون في كافة مناحي حياة المصريين؛ لكي تتحقق القاعدة الذهبية "مولد وصاحبه غايب".
  • يغني عن وجود رجال تطبيق القانون؛ فالـ "يو ترن" لا يحتاج إلى قانون، ولا إلى قواعد؛ فالكل ماشي، والكل راجع؛ مع العلم بأنهم يتواجدون بكثافة عند عبور شخصية مهمة؛ وهو عين فعل النظام مع المصريين؛ فترى الجحافل منهم عند تأمين موكب، أو قمع مسيرة، ولا تجد لهم أثراً عند حصول حريق، أو حدوث سرقة؛ فالشرطة ليست في خدمة الشعب، بل في خدمة النظام.
  • لا يحتاج إلى تكاليف كثيرة؛ فالقضية تنحصر في كسر رصيف (بعد إنشائه)، وتدوير حافته المكسورة؛ ولا حاجة حينئذ لأعمدة، وكاميرات، وإضاءات؛ فالنظام يحتاج هذه الأموال لتقسيمها على رجاله الأوفياء؛ و"القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود".
  • يحقق نظرية الفوضى المطلوبة بشدة لحماية النظام؛ فالشعب المنظم العارف لحقوقه خطر على أي نظام فاسد، وظالم.

ورغم ما قلته سابقاً بأن قوى الاحتلال الغربي ما تركت بلادنا، إلا وهي مطمئنة على مصالحها في المنطقة؛ إلا أن اللعبة وقتها كانت تسمح بوجود أنظمة قوية تدير الشأن الاجتماعي للناس؛ فتوفر لهم المسكن، والملبس، والوظيفة.. أما الآن فإن مرحلة "الفوضى الخلاقة" تستدعي وجود أنظمة فارغة "يو ترنية"؛ فلا تحافظ للمجتمع على قيم، ولا ثوابت، ولا تقوم بمهمتها في رعاية مصالح الناس، أو الحفاظ عليها..

وهذا وللأسف هو عين الحقيقة للنظام الحاكم حالياً.. فهو نظام يحافظ على وجوده بكل قوة، ولا يقوم في المقابل بمهمته الأساسية  في تسيير شئون البلاد والعباد؛ حتى صار الأمر فعلاً أقرب ما يكون إلى الفوضى التي ستأكل الأخضر واليابس إن آجلاً، أو عاجلاً، إن استمر الحال على ما هو عليه..

نظام "لف وارجع تاني" يدعي الحفاظ على الاستقرار في كل شيء..

  • في السياسة الخارجية: فهو لا يريد حرباً، ولا يريد إغضاباً لمن بيدهم المعونة، وأوراق اللعبة.
  • في السياسة الداخلية: فهو لا يريد دكتاتورية صريحة، ولا ديمقراطية أيضاً؛ ولكنه يريد شيئاً أقرب للمسخ منه إلى الجسم shapeimage_2القابل للتوصيف، وهو يريد أن يحكم منفرداً، ولكنه أيضاً يريد أحزاب معارضة صنعها بنفسه، وهو لا يريد الإخوان، ولكنه أيضاً لا يعالج قانونية وجودهم، وهو يريد انتخابات، ولكنها تفصيل، وهكذا..
  • في الحفاظ على الموارد: يؤجل مناقشة مياه النيل؛ لأنه مشغول بما هو أهم!! وبيبع الغاز لعدونا الاستراتيجي بأرخص من ثمن بيعه للمصريين أنفسهم؛ لأنها اتفاقات قديمة تم اكتشافها فجأة!! ويبيع القطاع العام؛ لأنه معيق لعملية التنمية، ويستبدل به "المولات"، و "الهايبر ماركتس"!!
  • في التعليم: يترك من يشاء يفعل ما يشاء.. مدارس أمريكية، وبريطانية، وفرنسية، وألمانية، وتركية، و…، وهو في حالة احتيار بين إلغاء 6 ابتدائي، أو الابقاء عليها، وتطبيق نظام الثانوية القديم، أم الجديد، وتطبيق الكادر، أو إلغائه؛ أما التعليم نفسه، وتطويره والرقي به؛ فقضية تتعارض مع نظرية "اليو ترن"!!!
  • في الصناعة: تخصصنا في الصناعات المرفوضة غربياً كالأسمنت، والأسمدة، والحديد والصلب، والكيماويات، وغيرها؛ وهي مملوكة في معظمها لأجانب أيضاً! وفضلنا في الصناعات الخفيفة استيراد الصيني بدل من "وجع دماغ" التصنيع، أما التقنية فالدخول فيها شر لا يريد مواجهته..
  • في الزراعة: كنا بلداً زراعياً وصرنا ولا فخراً بلداً مستورداً لمعظم طعامه، وكانت لدينا أرض زراعية خصبة، تحولت أيام الانتخابات إلى أراض تدخل كردون المباني!!

هذا النظام فعلاً يجر مصر جراً عنيفاً إلى بداية طريق الفوضى، وأشك صراحة فيمن يعتمد نظام الـ "يو ترن" كمنهج حياة أن يستطيع وقاية مصر من شر هذا الطريق..

إخواني.. أخواتي

التغيير هو الحل..

السبت، ٨ مايو ٢٠١٠

الفوضى الخلاقة

st_iraq_bombing_afp_gi_jpg_-1_-1 لم تكن كلمات "كونداليزا رايس" عن "الفوضى الخلاقة"، وكلمات "روبرت ساتلوف" عن "اللاستقرار البناء" مجرد كلمات عابرة، أو وجهة نظر تخص مطلقيها؛ ولكنها أصبحت منهجاً جديداً تبنته الإدارات الأمريكية، والغربية المتعاقبة في رؤيتها لشكل المنطقة في المرحلة القادمة بما يحافظ على المصالح الخاصة لهذه الدول.

وكما نجحت التجربة في العراق، وانطلقت في السودان، وكرة ثلجها تتحرك في اليمن؛ فإن إرهاصاتها، ومعاولها قد بدأت في مصر (الجائزة الكبرى).

فالناظر إلى حال مصر سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وفكرياً يدرك تمام الإدراك أن أيدٍ تعبث في الخفاء لإيصال هذا البلد العظيم لمرحلة “العرقنة”.

هذه "العرقنة" المصرية ما هي إلا "فوضى خلاقة" جديدة، ولكنها على نار هادئة..

"فوضى خلاقة" ينفخ في رمادها، ولكن لا يسكب عليها "البنزين"؛ فالنار في المرحلة الحالية قد توقظ الغافل، وتلسع الجار "الاستراتيجي".

والخوف من يقظة قاهري التتار، وقاطعي دابر الصليبيين يستدعي التأني الشديد، والحذر الأشد؛ لذا فلتكن "فوضى" مصر ناراً تشتعل داخلياً، وتمور بفعل الأبناء لا الغرباء حتى يحين الموعد؛ فتكون القاصمة التي تنتهي بهأ آخر الحروب الصليبية.

ورغم أني أدرك تماماً أن الاحتلال الأجنبي ما ترك بلادنا بقواته العسكرية؛ إلا وهو مطمئن تماماً أن الحكام "الوطنيين" الجدد سيحققون له مصالحه الاستراتيجية، إما "اتفاقاً" باختيارهم بشكل مباشر، بعد صناعتهم، وتلميعهم، أو "تغاضياً" بتمهيد الطريق أمام الأسوأ، والأجهل، والأظلم؛ فتتحقق المصالح أيضاً، ولكن بشكل غير مباشر..

لذا فقد سمحت هذه السياسة في الخمسين سنة الماضية بانتهاك قوى هذه الشعوب، وامتصاص طاقتها بعد امتصاص ثرواتها.. فقد سمحت بتخلف البلاد والعباد، والانشغال بالسفاسف، والبعد عن الجادة؛ حتى صارت هذه الشعوب بحكامها كالعجينة الطرية في يد المحتلين القدامى؛ فتشكلها كيف تشاء، أو صارت مهلهلة لا تقوى على مقاومة محتل عسكري جديد كما في حالة العراق، أو الصومال، أو صارت تابعة لا تقوى على قول "لا" في وجه أفكار، أو توجهات تستلزمها مرحلة الخضوع الجديدة كما في حالة معظم البلدان الأخرى.

ومصر (قلب المنطقة ورئتها الطبيعية) أصبحت من الفئة الثانية (التابعة)؛ فسار نظامها في الركب طوعاً بطول عمر، وضعف كفاءة، وقلة حيلة..

وصار أهلها باحثين عن لقمة عيش عزيزة أنستهم حرية أعز، وعن شربة ماء نظيفة ألهتهم عن أوساخ فساد قذر، وعن وظيفة تحفظ حياة أغفلتهم عن ذلة تدوس الجبين كما تدوس الأرض..

فمن "إسرائيل" صديقنا "الحميم" الذي يعلن الحرب من قلب قاهرة المعز دون عتاب أو ملام.. إلى "مصر أولا" التي لا ترى في "القدس" عنواناً لمقدس، أو كرامة..

ومن نواب "سميحة" إلى نواب "الكيف" إلى نواب "الهروب من التجنيد" إلى نواب "سب الدين" إلى نواب "الرصاص"..

ومن حكومة رجال الأعمال مهربي المليارات، ومالكي الشواطئ072119 والاستراحات، إلى الشركات المباعة بـ "الملاليم"، إلى حارقي القطارات، وقاتلي ركاب العبارات..

ومن أصحاب الفتاوى الذين لم يتلقوا علماً منهجياً؛ فيفتون، ويلهون، ويخدرون إلى شعب الكنيسة وصاحبها رئيس دولة القبط الجديدة..

ومن تعليم مخرب للعقول، مسبب للتياسة والبلادة، إلى تصدر الجهال، وتقديمهم على أصحاب الكفاءة والمهارة..

ومن ماء ملوث، إلى زرع مسرطن، إلى هواء خانق، وأمراض فتاكة..

ومن … إلى …

يبقى السؤال:

أين المصريون؟

وهل يدركون حقاً ما يحاك بهم؟

وهل يعلمون فعلاً مواطن الخلل، ويسعون لإزالتها؟

أم أننا كالذبيح الذي ينظر إلى السكين المسنونة تقترب من رقبته، وهو تائه.. ساهٍ.. غافل؟

إخواني.. أخواتي

فلنحاول أن نعلم ما يحاك بنا، وأن نبصر من حولنا بالخطر القريب جداَ منا؛ حتى نسعى إلى تغييره، ونحن على بصيرة، ونحن أقوى عزما، وأصلب عوداً؛ فالتاريخ لن يرحم؛ و{اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}.

وهذا ما سأحاول فعله في السلسلة القادمة إن شاء الله.

الأربعاء، ٣١ مارس ٢٠١٠

رسائل إلى الدعاة - في الزواج

1_709571_1_34 كانت بيوت الملتزمين (الدعاة) – أكثر البيوت المصرية استقراراً، وترابطاً؛ وذلك أولاً: للمعرفة الصحيحة بمتطلبات وغاية الزواج في الإسلام، وثانياً: لوحدة الهدف (إنشاء البيت المسلم) بين ركني البيت الأساسين (الزوج، والزوجة).

وكان عامة الناس يتعجبون وقتها من بساطة زواج الملتزمين (الدعاة).. بساطة الاختيار، وبساطة الاتفاق، وبساطة الفرح، وبساطة البيت.

وخير معبر عن هذه البساطة الشديدة (الأقرب لروح الإسلام) ما ذكره د. إبراهيم الزعفراني في مذكراته الشخصية (مدونة الزعفراني)، عن كيفية زواجه من أ. جيهان الحلفاوي (جيل السبعينات)، وكيفية تزويجه لبناته (جيل التسعينات)، وكان هذا النموذج مثالاً يتطلع إليه جل – إن لم يكن كل – الملتزمين..

ولكن ما أراه، وما أسمع عنه حالياً في أمر الزواج، يؤكد أن المجتمع هو الذي يجر الملتزمين إليه، بدلاً من أن يرتقي هؤلاء الدعاة بالمجتمع؛ ليقتربوا سوياً من روح، وتعاليم الإسلام في بناء لبنة المجتمع المسلم الأولى (البيت).

والخلل البادي لا يظهر في مرحلة واحدة من مراحل بناء هذا البيت (اللبنة)، بل صار متعدياً إلى كل المراحل.. بداية من الاختيار حتى العشرة، ونهاية حتى بالتسريح (الذي كان بإحسان).

أولا: الاختيار:

Wedding_now صار شباب هذه الأيام (بنين وبنات) عند اختيار زوج المستقبل مصروعاً بأوهام الدنياً، ومتعلقاً بستائرها الواهية، وباحثاً عن سعادتها المفقودة، وسار في هذا الركب شباب الملتزمين، ولكن بمقاييس أكثر تعقيداً..

فالشاب العادي يبحث عن جميلة الجميلات بنت الحسب والنسب؛ أما الشاب الملتزم فيبحث عن فائقة الجمال؛ لأنه يريد العفاف، وعن قوَّامة الليل صوَّامة النهار؛ لأنه يريد ذات الدين، وعن العاطفية (الرومانسية) الرقيقة؛ لأنه يريد السكن والمودة، وعن الخجولة الحيية المطيعة؛ لأنه يريد الرجولة المكتملة بالقوامة، وعن ربة المنزل الماهرة؛ لأنه يبحث عمن تخدمه، وتخدم أهله، وقد يزيد بعضهم فيبحث عن المرأة العاملة؛ لأنه يريد المساعدة..

ويكتمل المشهد قتامة حين يدخل صاحبنا في دائرة البحث عن الإبرة في كومة القش، فلا يجد؛ لأنه لا يعرف أصلاً – بحكم التزامه – شيئاً عن عالم النساء؛ فيظل يبحث عن “صاروخ” جمال لا يعرف أبعاده، ولا سرعة انطلاقه، وعن حياء لا يستطيع أن يفرق بينه وبين الخجل (الكسوف المصطنع)، وعن رقة وعاطفة لا يستطيع أن يميزها عن التلون، وتقعير الكلام..

فأسمع من أستاذ في الجامعة يدخل بحكم سنه ومكانته في مشاريع زواج، عمن يضع مواصفاته في عروس المستقبل أن تكون شبيهة بـ “ليلى علوى”.. إي والله.. “ليلى علوي”!!!

وأسمع عمن يشاهد، أو يدخل 10 أو 20 بيتاً؛ فلا يجد “الموديل” المناسبة التي تحقق أحلام “الفتى الطائر”.

وعلى الجانب الآخر، تبحث الفتاة - وإن كانت هي الطرف الأضعف في هذه المعادلة – عن فارس الأحلام.. الوسيم.. حامل مفاتيح السيارة، والشقة، والشاليه.. الخالي من منغصات الحموات والعمات.. المحب لأكل المطاعم عن طعام البيت.. وكذلك المتدين “المودرن” غير المعقد، والمتفتح؛ فترفض الجاد؛ لأنه متجهم، والبسيط؛ لأنه فلاح، والبار بأمه؛ لأنه “ابن أمه”، وهكذا..

ونتيجة هذه الدائرة الجهنمية تأخر في الزواج، واختلال في الاختيار، وتقويض لأسس بيت يرجى منه نهوض بأمة، وتغيير لمجتمع..

ثانياً: مصاريف الزواج

معظم جيلي تزوج بمجمل تكاليف لا تزيد عن عشرة أو عشرين ألف جنيه، مع دين بسيط مقدور على السداد..

أما الآن؛ فلقد أصبح هذا الرقم مضروباً في عشرة، وقد يزيد.. ما بين شبكة، وأثاث، وهدايا، وأجهزة، وتشطيبات، ومستلزمات، وقاعة، وزينة، و…

فرغم أن نِسب الزواج قد قلت، والظروف الاقتصادية قد ساءت إلا أن حب البذخ والمظهرة، والمبالغة في فرض الشروط، والاتفاقات قد زاد!!

أعرف شاباً لديه شقة (تمليك)، وخصص له والده مبلغاً معقولا من المال للشبكة، والزواج، وقد كان ذلك كافياً جداً لأن يتم زفافه بلا ديون، أو التزامات نحو الغير؛ إلا أن أهل العروس (الملتزمين) أبَوا إلا أن يبدأ صاحبنا حياته مَدِيناً مقتطعاً من راتبه الصغير ما يسد به الدَّين، ويرفع عن كاهله الحرج!!!

وقد صارت قاعات الأفراح والتي تُحجز بآلاف الجنيهات (رغم عدم يسار العريس) بنداً أساسياً من بنود الإرهاق، والعنت، والمشقة؛ لكي يكتمل التفاخر، ويرضى الأهلون.

ويبقى الأصل في هذه الأشياء “لينفق ذو سعة من سعته”؛ أما أن نتداين، ونقترض، ونمد الأيادي، لنبدأ حياة جديدة ملؤها الضغط العصبي، والشعور بهَمِّ الليل، وذُلِّ النهار؛ فهو ما لايرضاه دين، ولا يباركه الخالق..

ثالثاً: الحياة الزوجية

After_Wedding ما كنت أسمع أبداً  في بداية التزامي عن حالة طلاق واحدة في بيت من بيوت الملتزمين، وما كنت بالتالي أسمع عن خلافات، واستدعاء للأهل، ولجان الصلح للإصلاح بين زوجين ملتزمين مختلفين..

ولكن الأيام قد دارت، وصرنا نسمع عن طلاق، وعن بيوت مخلخلة (وإن قلَّت)، وعن خلافات مادية، وعائلية لم يراع فيها لا سكن، ولا مودة، ولم يراع فيها ميثاق غليظ..

أُخبَر عمن طلق زوجته وهو في سن الخمسين، وأسمع عمن يرفض زيارة أهل زوجته، وأسمع عمن يمنع زوجته من زيارة أهلها..

ونعلم عن بيوت غاب فيها الوفاق رغم استمرار الحياة خوفاً فقط على الأولاد؛ فيعيش فيها الزوجان كالأجانب..

ويبقى دائماً كل طرف ناظراً لنفسه وحقوقه يحاسب رفيقه عليها، وينسى دائماً أن يحاسب نفسه على واجباته؛ فتختل المعادلة، ويغيب الميزان، وتتقطع – تدريجياً – أواصر السكن والمودة..

إخواني.. أخواتي

أعلم تماماً أن هذه الأمور ما زالت أقل من نظيراتها عند غير الملتزمين؛ ولكنى أرى بوضوح شديد أنها تزداد يوماً بعد يوم، وما لم نكن نتصوره في الماضي أصبحنا نراه شاخصاً أمام أعيننا في الحاضر..

ولذلك فإن لم نرجع لربنا، ونتقِه، وندرك حكمته في الزواج؛ فإننا ضائعون لا محالة..

والبيت الخرب لا يبنى عليه مجتمع، ولا تنهض به أمة..

السبت، ٢ يناير ٢٠١٠

المُقلـِّدون

ما عرف التاريخ أبداً أمة، أو فكرة قامت على أكتاف المُقلدين..

WoodSheild5 فالمُقلد يرى أن دوره الوحيد هو الحفاظ على أفكار أسلافه، ومعلِّميه..

يرى أن الخير – كل الخير – في الاتباع، وأن الشر – كل الشر – في الابتداع..

لا يستطيع المقلد أن يفرق بين ما ينهى الله عن الابتداع فيه من أمور العقيدة والعبادة، وبين ما اجتهد مُعلِّمُه فيه من وسائل، وأساليب، تجدد أمر الدين؛ فيضع الجميع في سلة واحدة، فلا يفارق اجتهاد معلمه – فيما يستحق الاجتهاد – قدر أنملة..

يفعل المقلد ذلك رغم أنه يعلم – يقيناً – أن أستاذه متهم بالابتداع فيما اجتهد؛ لأنه خرج عن مألوف زمانه، وتقليد علمائه..

والمُقلد لا يرى متغيرات؛ فكل تعاليم أستاذه ثوابت؛ فـ “الاسم” ثابت، و”الشعار” ثابت، و”الوسيلة” ثابت..

كما أن المقلد جندي ينتظر توجيهاً من أستاذه، وإرشاداً من قائده؛ فإن ساقته الأقدار إلى القيادة ظل مطيعاً لأستاذه – وإن غاب، وغابت ظروفه – وطلب من جنوده تقليد ما رآه، واتباع ما سمعه..

وإن اقتضت القيادة على “المقلد القائد” أن يكتب، أو يرشد، تراه يستشهد بما قال “الأستاذ”، وبما فعل “الأستاذ”..

فالمقلد ضيق الأفق.. ناظر تحت قدميه..

لا يملك من المهارات الكثير.. وإن ملك من المهارات شيئاً فهي في الحركة فقط؛ لأن روحه روح جندي وإن تولى القيادة..

لذا فالمقلد يرى في الفكر خطراً، وفي التجديد خطلاً..

ويسهل على أعداء المقلد خداعه؛ فردود أفعاله محفوظة؛ لأن قضيته ما house_cracked_due زالت فيما مضى؛ فيسرف العدو في الهجوم عليه من الباب الذى يتمترس خلفه؛ فيتلقى الصدمات، والضربات، وهو ثابت لا يتزحزح.. صلب لا يلين!! وهو لا يدري – لضيق أفقه – أن عدوه يحفر أنفاقاً تحت البيت تقوض جدرانه، وتخلخل أسسه؛ ولكنه – رغم ذلك – سعيد ببقاء الباب الذي يحفظ على البيت أمنه!!

والمقلد يأنس لمن هم على شاكلته، يقدمهم على أقرانهم؛ لأنهم على دربه سائرون، وعلى عهده محافظون!!

كما يرفض أيضاً أن يشاركه في القيادة من كان له شبهة رأي، أو من أراد أن يستوقف القافلة حيناً، فيسألها: إلى أين المسير؟!

وللمقلد حجة ضعيفة، تمنعه عن الخروج من جدران بيته المقفول؛ فلا ترى له في عموم الحياة أثراً؛ فهو في داره يصعد، ويهبط، يجول ويصول، وخارج بيته ترمد عينه، ويضعف سمعه، ولا تقوى على حمله قدماه؛ فيؤثر السلامة، ويترك أمر الخروج لـ “مبتدعين” اقتضت الحاجة أن يبقوا معه في الدار التى يسكنها..

إخواني.. أخواتي

إذا أردتم أن تروا نور الشمس، ورحابة الدنيا..

وإذا أردتم أن تخرجوا للدنيا الكنوز التي في حوزتكم، واللآلئ التي في خزائنكم..

فاطلبوا من هؤلاء التنحي؛ فالبيت كاد أن يخر سقفه على ساكنيه..