الجمعة، ٣٠ مارس ٢٠٠٧

حكايات من فسادستان - الأولى

بما أنى أحد مواطنى دولة "فسادستان"، وبما أنى قد مللت الكلام فقط مع من يقرؤون، وبما أن شعبنا غارق فى حياته، وغير عابىء لا بدستور غيّروه، ولا ببلدٍ يهدموه، ولا بشعبٍ يسرقوه..
كل ذلك جعلنى أتوقف قليلاً عن التحليل، والتفسير، والتبيين، وأن أنقل ما أسمع من أبناء هذا الشعب المطحون، والغارق حتى إخمص قدميه فى لقمة عيشه التى يتحايل حتى يحصل عليها بالحلال، مع بعض تحابيش من الحرام – إن كان حراماً – بسبب اضطراره للتعامل مع حاكمى دولة فسادستان..
سأجعلها سلسلة غير متصلة – أى حسب الظروف، والشخصيات والأحوال..
سلسلة على لسان هؤلاء المطحونين الضاربين فى الأرض بحثاً عن لقمة العيش..
سلسلة كلامها فى السياسة دون قصد المُـتـَحدَّث عنهم فيها، ودون علمهم؛ لأنهم إذا علموا سيصمتون، وإذا عرفوا سيرتابون..
وأولى حلقات هذه السلسلة على لسان شريف..
شريف سائق البيجو على خط مدينته – القاهرة..
شاب مكافح حاصل على بكالوريوس تربية، لم يبحث عن العمل كمدرس حرصاً على لقمة عيش توارثها عن والده – الذى لا يزال على قيد الحياة..
يعمل شريف غالباً فى الليل وينام النهار..
ولأترك لحكايات شريف الكلام، دون تعقيب أو تعليق؛ ففيها العبرة، وفيها الخلاصة عن فسادستان:
1- عملت فترة فى إحدى مصانع السيراميك الكبرى ذات الاسم الأجنبى. ولعدم وجود رعاية بيئية وصحية، فقد مرضت بمرض شديد أصاب صدرى رغم صغر سنى، وما علمته أن من يعملون فى هذه الشركات ينتهى بهم المطاف إلى تطور فى هذا المرض.. وفضلت حينها أن أترك المصنع رغم الراتب الكبير، ورغم عملى فى مجال ينتمى إلى تخصصى، والراتب الكبير الذى كنت أحصل عليه؛ إلا أنى فضلت احتراف مهنة القيادة حفاظاً على صحتى.
2- زيت السيارت ارتفع ثمنه إلى الضعف على خمس مراحل، وسعر الكارتة (تصريح السفر لسيارات الأجرة) زاد مرة ونصف المرة منذ آخر زيادة فى سعر السولار، ورغم ذلك زادت الأجرة بنسبة 10% فقط.
3- الثمن الرسمى للحصول على تصريح سفر السيارات البيجو الأجرة ذات السبعة ركاب هو 3 جنيهات، و15 قرشاً، والثمن الحقيقى الذى ندفعه علناً هو 7 جنيهات. أما بالنسبة للميكروباص ذو الأربعة عشر راكباً فالثمن الرسمى قيمته سبعة جنيهات، والثمن الحقيقى العلنى ما بين 35 ، و42 جنيها حسب "شطارة" كل سائق.
4- الدخل اليومى الرسمى دون الإضافات لموقف عبود هو نصف مليون جنيه.
5- مخالفة سيارة الأجرة البيجو التى تدخل حيز مدينة القاهرة دون ترخيص هو 500 جنيه، ووقف للسيارة عن العمل 3 أشهر، يدفع السائق للضابط المختص 250 جنيهاً نقداً لإلغاء هذه العقوبة.
6- لتجديد الرخصة هذا العام دفعت 4 جنيهات تبرع إجبارى ليوم المريض.
7- وجدت عندى مخالفة قيمتها 500 جنيه لمجاوزة السرعة فى طريق الوادى الجديد، رغم أنى لا أعرف طريق الوادى الجديد أصلاً.
8- حصلت على مخالفة فى إحدى المرات فاتصلت بأحد الضباط "بلدياتى" الذين أعرفهم، فاتصل بالضابط المسئول فى المرور، وغير رقم (1) الموجود فى رقم سيارتى إلى رقم (2) فى ورق المخالفة لتصبح مثلاً 23456 بدلا من 13456.
9- ركب معى مرة أحد الشباب "اللى واخد باله من نفسه" بجوارى، وكان بجانبه أحد مرضى القلب؛ فطلبت منه إطفاء السيجارة، فرفض، وقال "اللى مش عاجبه ينزل من السيارة"، فخفت منه وحسيت أنه مسنود "يعنى ضابط أو كيل نيابة"، ثم أخرج عنداً علبة السجائر كاملة ووضعها أمامه لتناولها الواحدة تلو الأخرى، ولما فاض بى الكيل وقفت عند أقرب كمين شرطة على الطريق، ونزلت وحكيت للضابط ما حدث، فأرسل إليه أمين الشرطة، فأخبره بأن "الباشا عاوزك"، فرد الشاب: "اللى عاوزنى، يجينى"، فجاء الضابط ونزل فوق الشاب "تلطيشاً" وضرباً، وسباً!!!!، وقال له: "لو كنت ابن وزير الداخلية حتى.. أنا هاربيك"، وأمر أمين شرطة أن يجهز له محضر "بانجو" وأن يحضر له "حتة بانجو" من الداخل!!!!! وبالطبع – وكما هى عادة المصريين – توسط الراكبون عند الضابط لإلغاء المحضر، وبالفعل ألغاه الضابط!!!!!!!.
10- جاء أحد "بلدياتنا" للركوب مع والدى فى إحدى المرات، ولم يبق أماكن إلا فى المقعد الأخير، فقام أحد الجالسين فى المقعد الأوسط ليستطيع "صاحبنا" الرجوع إلى المقعد الخالى، فقام صاحبنا بالجلوس مكان الراكب، قائلاً له "دى عربيتى" وأجلس فى المكان الذى أريده، فذهل الرجل، وطلب منه أن يفسح له المكان حتى يستطيع الرجوع، فرفض وقال له ارجع من الناحية الأخرى، فذهب الرجل إلى الناحية الأخرى، فرفض صاحبها أيضاً خوفاً من أن يحدث له نفس ما حدث!!!! وهنا تدخل السائق – والد شريف – وطرد "بلدياته" من السيارة، وقال له ايحث لك عن سيارة أخرى!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
إخوانى.. أخواتى
هذه الحكايات الأولى من "حكايات من فسادستان" على لسان شريف سائق البيجو..
وأظن أنها معبرة بما يكفى عن حال بلدنا العظيم "فسادستان".
والسلام..

الأربعاء، ٢١ مارس ٢٠٠٧

مشكلة حلت المشكلة

فى إحدى القرى التركية والتى تدعى "مشكلة" يوجد "مُختار" أو "عمدة" غير متعاون مع أهل القرية، و"يركب رأسه" فى قراراته؛ مما أدى إلى تعطيل مصالح أهل القرية..
كما أن هذا المختار غير متعاون حتى مع أعضاء المجلس البلدى الذين يشاركونه إدارة أمور القرية.
وبعد أن يأس أعضاء المجلس البلدى من محاولات التعاون مع هذا "العمدة" الديكتاتور، قرر أعضاء المجلس البلدى الاستقالة من مناصبهم..
وبعد أن فاض كيل أهل القرية من هذا "الريس الراكب دماغه".. وبعد أن قدم الأعضاء استقالاتهم، دعا أهل القرية لانتخابات جديدة ينتخبون فيها أعضاء جدد للمجلس البلدى..
وقرروا..
وأجمعوا..
ورشحوا.. أربعة من المرضى العقليين لهذه المناصب الأربعة!!!
نعم.. رشحوا أربعة من المجانين!!!
ولم يترشح أحد أمامهم..
وتم اختيارهم بالتزكية..
وأصبح المجانين أعضاء بالمجلس البلدى لقرية "مشكلة"، ليشاركوا "العمدة" اجتماعات المجلس البلدى.
وكانت النتيجة..
النتيجة..
أن أطلق "الريس"، بل "العمدة" الرصاص على نفسه (على ما أتذكر) محاولاً الانتحار، وقد نقل إلى المستشفى فى حالة خطيرة ليعالج من إصابته..
ولا أدرى بعد أن نشرت قناة الجزيرة هذا التقرير منذ شهرين تقريباً: أما زال هذا الرجل حياً أم لا؟!!!!
ترى ما رأيكم فى الحل الذى ابتكرته قرية "مشكلة"..
وانتخابات الشورى على الأبواب..
والمرضى العقليون يملأون كل شوارع مصر..
إخوانى.. أخواتى
ما رأيكم فى هذا الحل؟!!

الأربعاء، ١٤ مارس ٢٠٠٧

د. صلاح الدسوقى


لم أر فى حياتى رجلاً مثل هذا الرجل، بل ولم أتخيل أن تجتمع كل ما أتمناه من صفات إنسانية فى شخص واحد..

شخص واحد تراه أمام عينيك، وتعايشه بقلبك قبل حواسك..

فتعرفه بأنه: العالم.. أستاذ الجامعة.. الطبيب..

وتشاهده: الداعية.. الربّانىّ.. حافظ القرآن.. ندىّ الصوت..

وتصفه بأنه: الرقيق.. المتواضع.. الخلوق.. البارّ بوالديه..

وترافقه فتجده: الفاهم لدينه.. الباذل.. المُضحى.. المهموم بشأن دعوته.. المحب لوطنه

هذا ببساطة، ودون مبالغة: الدكتور/ صلاح الدسوقى..


العالم.. أستاذ الجامعة.. الطبيب:

هذا الرجل البسيط، المتواضع هو الحاصل على:

1- بكالوريوس الطب والجراحة.

2- ماجستير الجراحة العامة، وجراحة الأطفال.

3- ماجستير التشريح وعلم الأجنة.

4- دكتوراة التشريح وعلم الأجنة.

ويستعد للحصول - بإذن الله - على دكتوراة فى جراحة الأطفال.

هذا الرجل الذى يدرس علم التشريح فى جامعة الأزهر، ويدرس انتداباً فى إحدى الجامعات الليبية..

هو ببساطة: الطبيب الذى يحبه الأطفال قبل الكبار فى عيادته بميت عقبة، ومستشفيات الجمعية الطبية الإسلامية..


الداعية.. الربانى.. حافظ القرآن.. ندى الصوت

هذا الرجل الذى يمارس الدعوة بفطرته.. دون تكلف، ودون عناء..

يمارسها بأخلاقه، وأدبه.. يمارسها فى لفظه، وخطوه.. يمارسها بوقته، وجهده..

لا يخلو معه حوار من دعوة، ولا نقاش من توجيه، ولا موقف من تربية..

وقد قال لى أحد الزملاء، الذى رافقه فى سكنه القديم فى ميت عقبة: حين كنا نريد الخشوع فى الصلاة، وحين نحن إلى العَبرة بين يدى الله، كنا نقدمه ليصلّ بنا ركعتين فى جوف الليل وقت السحر.. حتى تلين قلوبنا، وتخشع لذكر الله..


الرقيق.. المتواضع.. الخلوق

لم أر فى حياتى شخصاً بهذه الرقة، وهذا الحرص على مشاعر الغير..

يسأل عن كل الناس، وأحوالهم، وصحة آبائهم، وأبنائهم، وهو الأكبر سناً، والأعظم مكاناً، والأكثر انشغالاً..

يعايشك، فلا تشعر معه أبداً أنه أستاذ جامعى فى الخمسين من عمره، وأنت الشخص قليل العلم، صغير السن، متواضع المكانة، بل تشعر معه دائماً أنه أبوك الرحيم، أو أخوك العطوف..

يسمع لرأيك كاملاً، ويستحى أن يقاطعك.. كنت أفرّغ فيه شحنات غضبى، فيتلقاها بصبر وتؤدة.. مهدئاَ، ومُمنياً، ومُذكراً..

يُمرِّض أبنائى الصغار فى بيتى، وهو من هو، ثم يسأل عنهم كل يوم، حتى يطمأن على زوال المرض، وشفاء العليل..


البار بوالديه

بأبيه البالغ من العمر 82 عاماً، والمصاب بأمراض الشيخوخة، وارتفاع الضغط.

وبأمه المريضة بثلة من الأمراض:

- بكسر فى مفصل الحوض الأيسر..

- وتيبس فى مفصل الحوض الأيمن..

- والمحتاجة إلى استبدال مفصل..

- والمريضة بقصور فى الشريان التاجى..

- والمريضة حديثاً بفشل كلوى مزمن اكتشف قبل اختطافه بفترة زمنية وجيزة..

كان لأمه طبيباً، وممرضاً، وخادماً: يبيت بجوارها، ويغسل ثيابها، ويساعدها فى قضاء حاجياتها دون كلل، ولا ملل..


الفاهم لدينه.. الباذل.. المُضحى.. المهموم بشأن دعوته.. المحب لوطنه

يقف هذا الرجل بهدوئه، ورزانته، ورجاحة عقله سداً منيعاً حين يشتد الظلم، وتنفعل النفوس، وتتأجج الصدور.. يقف مذكراً بموقف لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومستشهداً بآية، ومُثنياً بحدث فى طريق الدعوة؛ حتى تهدأ النفوس، وتستنير العقول..

هذا الرجل الذى أهمل عيادتيه حباً وبذلاً لدعوته التى ملكت عليه حياته، وأذكره حين يتصل بأم سيد - ممرضة عيادته القديمة - فى الساعة الحادية عشرة مساء يسألها عن مرضى ينتظرونه فى مثل هذا الوقت، ولا يبالى بوجودهم من عدمه.. فقد باع واشترى، وينتظر الثمن..

الذى يضحى بساعات نومه، ووقته.. حتى أنه لا يستخدم سيارته، حتى يقتنص دقائق للنوم فى المواصلات..

هذا الرجل الذى ضحى بسفر إلى الخارج من أجل بلده الذى أحب، والتى يراها تحتاج لكل يد تصلح، ولكل عقل يفكر، ولكل جسد يبذل.

هذا الرجل الذى انشغل بالصحة العامة، وسعى، بل وقدم بحثاً حول الغذاء الصحى الآمن الخالى من الكيماويات، والأعلاف الصناعية.. وسعى لنشر هذه الفكرة بين الشباب، وعموم الناس.. وكان يحلم بها، وبتنفيذها واقعاً على أرض زراعية خالية من الكيماويات، وعلى أرض مزرعة للدواجن والحيوانات تأكل فيها أعلافاً طبيعية.. هذا الفكرة التى وأدها اللصوص وسط ما سرقوا من أفكار، ودراسات، وأبحاث..


الزوج، والأب

الرجل الذى ابتلاه الله بالتأخر فى الولد عشر سنوات، ولم يتبرم، ولم يشكُ، ولم يُر إلا شاكراً راضياً حامداً..

كان الله فى عون زوجه الدكتورة/ أميرة؛ فقد افتقدت أباً، وأخاً، وصديقاً قبل أن تفتقد زوجاً رفيقاً محباً رقيقاً.

كان الله فى عونها وهى تخبر أحمد الصغير ذا الأربع سنوات أن أباه فى ليبيا..

كان الله فى عونها وابنها يلح عليها، وعلى والده أن يعود من ليبيا (سجن طرة) ليرافقهما إلى البيت..


لكِ الله أيتها الأخت الفاضلة..

ولك الله أيها الولد الصغير..

ولك الله أيها الأب العجوز..

ولكِ الله أيتها الأم المريضة..


ولك الله يا مصرُ..

بل ولنا الله جميعاً..


إخوانى.. أخواتى

ندعوه كما دعاه رسولنا الكريم، حين ضاقت به السبل، واشتدت عليه الأزمة:

اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس.. يا أرحم الراحمين أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربّي.. إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهَّمني، أم إلى عدو ملكته أمري.. إن لم يكن بك علىِّ غضبُُ فلا أبالي، ولكنَّ عافَيَتَك أوسعُ لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك أو يَحِلَّ علىَّ سخطُك.. لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك.

السبت، ١٠ مارس ٢٠٠٧

"دَستور"، و"دُستور"

"دَستور"، و"دُستور" كلمتان تتفقان حرفاً، وتختلفان معنى
أما الأولى، وهى "دَستور" فكلمة دارجة يستخدمها المصريون فى حالة من اثنين:
1- عند التعامل مع ما يسمى بـ "الأسياد"، وهم الجن؛ فيقولون عند الإشارة إليهم "دَستور يا أسيادنا".
2- عند الدخول إلى مكان يبدو من هدوئه أن أصحابه غير منتبهين لدخول قادم إليهم.
وأما الثانية، وهى "دُستور" فكلمة غير عربية، والأرجح أنها فارسية، وتعنى "القانون الأساسى"، أو "القانون الحاكم" الذى يُرجع إليه حين صياغة القوانين - ما يسمى بعملية التشريع القانونى.
الأولى يعرفها معظم المصريين، جاهلهم ومتعلمهم.. فقيرهم، وغنيهم.. كبيرهم، وصغيرهم.
أما الثانية فيجهل معناها الاعتبارى معظم المصريين من كافة فئاتهم، وطوائفهم؛ رغم سماعهم عنها فى كل وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمقروءة.
وأقصد بـ "معناها الاعتبارى": المعنى الذى يرسخ فى النفوس، ويتحول إلى أرض الواقع.. قانون أساسى يعبر عن الناس، وعن هويتهم، وعن ثقافتهم.. يلجأون إليه حين يختلفون، وحين يتجادلون، وحين يشعرون بالظلم.
فالدُستور: مرجع الأمم.. تتوافق عليه بما يعبر عنها، يحكم علاقتها بحكامها، وأصدقائها، وأعدائها، وعلاقتها بماضيها، وعلاقتها بمستقبلها.
والدُستور - كما يقول المفكر الكبير والمستشار طارق البشرى - لا ينشأ واقعا، ولكنه يثبت ما هو واقع فعلاً..
أى أنه يثبت واقع الأمة الذى توافقت عليه، وتعايشت به، ولا يُنشأ واقعاً جديداً لتعيش عليه الأمة من جديد..
لذا، فالدستور ثابت ما ثبتت الأمم.. باق ما بقيت الشعوب..
هكذا أريد بالدُستور أن يكون، وهكذا تعايشت عليه الديمقراطيات الغربية العتيقة، والديمقراطيات الناشئة الحديثة..
أما فى مصر - وسائر البلدان العربية - فـ "الدُستور" أقرب إلى "الدَستور".. كلاهما مجهول لدى الناس.. كلاهما يخاف منه الناس.. كلاهما لفظ لا معنى له..
فالدُستور المصرى السابق - الذى يراد تعديله - يفرض "الاشتراكية" فى معظم مواده الاقتصادية؛ ورغم ذلك بـِيع القطاع العام، دون اعتبار لهذه النصوص..
ويتحدث عن "تحالف قوى الشعب العامل".. ولا يعرف أحد المعنى الحقيقى لهذه الكلمة، أو ماذا يقصد بها، وعلى من تعود؟
ويتحدث عن الحرية.. حرية السكن، وحرية حيازة الأموال، وحرية العيش دون رقيب، وحرية السلطة القضائية؛ ورغم ذلك تـُنتهك كل الحريات من أصغر أمين شرطة فى الشارع، ومن أصغر صحفى، ومن أصغر "ابن مين فى البلد دى"، ومن أصغر فنان، وفنانة، ومن، ومن ....
ويتحدث عن نائب للرئيس، ولا يوجد نائب للرئيس..
ويعطى للرئيس سلطات أقرب للألوهية منها للبشرية؛ ورغم ذلك يتحدث عن سلطات ثلاث تستقل كل واحدة عن الأخرى!!!!
ويتحدث عن حرية الصحافة، وعدم الرقابة عليها؛ ورغم ذلك تمنع أى صحيفة من الصدور إلا بموافقة السلطة التنفيذية، وتغلق أى جريدة لا تعجب السلطة التنفيذية..
هكذا كان الدستور - الذى سيكون دستوراً سابقاً بعد ثلاثة أسابيع.
أما الدستور اللاحق، فسيكون أكثر تعبيراً عن كل ما يمكن أن يسمى بـ "سمك.. لبن.. تمر هندى".
فالمواد ستضرب بعضها بعضاً..
- فالمادة الثانية التى تنص على: "الاسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسى للتشريع" ستخالف المادة الخامسة التى ستنص على: "للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية وفقًا للقانون ولا تجوز مباشرة أي نشاطٍ سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أية مرجعية دينية أو أساس الدين أو بناء على التفرقة بين الجنس والأصل"..
- والمادة 179 الجديدة التى تنص على: "تعمل الدولة علي حماية الأمن والنظام العام في مواجهة أخطار الارهاب وينظم القانون أحكاما خاصة بإجراءات الاستدلال والتحقيق التي تقتضيها ضرورة مواجهة تلك الاخطار وذلك تحت رقابة من القضاء وبحيث لا يحول دون تطبيق تلك الاحكام الإجراء المنصوص عليه في كل من الفقرة الاولي من المادة 51 والمادة 44 والفقرة الثانية من المادة 45 من الدستور. ولرئيس الجمهورية ان يحيل أية جريمة من جرائم الارهاب إلي أية جهة قضاء منصوص عليها في الدستور أو القانون" ستناقض المواد من المادة 40 حتى المادة 57، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: "الحرية الشخصية حق طبيعى وهى مصونة لا تمس، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأى قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ويصدر هذا الأمر من القاضى المختص أو النيابة العامة، وذلك وفقا لأحكام القانون. ويحدد القانون مدة الحبس الاحتياطى" و"للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائى مسبب وفقا لأحكام القانون"، و"لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون. وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التليفونية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها أو الإطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائى مسبب ولمدة محددة ووفقا لأحكام القانون"، و"حرية الرأى مكفولة، ولكل انسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير فى حدود القانون، والنقد الذاتى والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطنى"، و"للمواطنين حق الاجتماع الخاص فى هدوء غير حاملين سلاحا ودون حاجة الى إخطار سابق، ولا يجوز لرجال الأمن حضور اجتماعاتهم الخاصة. والاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة فى حدود القانون"، و"للمواطنين حق تكوين الجمعيات على الوجه المبين فى القانون، ويحظر انشاء جمعيات يكون نشاطها معاديا لنظام المجتمع أو سريا أو ذا طابع عسكرى".
- والمادة 62 الجديدة التى ستنص على "للمواطن الحق في الانتخاب وإبداء الرأي في الاستفتاء وفقًا لأحكام القانون والمساهمة في الحياة العامة واجب وطني، وينظم القانون حق الترشيح لمجلسي الشعب والشوري وفقًا للنظام الانتخابي الذي يحدده بما يكفل تمثيل الأحزاب السياسية ويتيح تمثيل المرأة في المجلسين، ويجوز أن يأخذ القانون بنظامٍ يجمع بين النظام الفردي والقوائم الحزبية بأية نسبة بينهما يحددها، كما يجوز أن يضمن حدًّا أدنى لمشاركة المرأة في المجلسين" ستناقض المادة 40 التى تنص على "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة".
وعلى هذا فقِس..
إذن عن أى دستور نتحدث، وعن أية تعديلات نتشاور..
والدستور بوضعه الجديد سـ "يدستر" العلمنة، ويمنع الناس من التعبد فى حياتهم بدينهم.. بتسييره لشئون حياتهم - التى هى السياسة.. بمرجعيته لكل أمور دنياهم التى لا يصح إسلامهم إلا بها..
عن أى دستور نتحدث، وتحويل الناس إلى أية محاكم مُنشأة - عسكرية، وأمن دولة، أو ستـُنشأ أصبح "مُدستراً" وبسلطة رئيس السلطة التنفيذية - الذى هو رئيس الجمهورية - فى أى وقت كان، أو بأية تهمة ستكون.. سيكون حقاً مطلقاً لا مراجعة فيه من سلطة قضائية، أو من سلطة تشريعية..
عن أى دستور نتحدث.. ورئيس السلطة التنفيذية سيكون من حقه المطلق أن يحل السلطة التشريعية فى أوقت كان، وبأى سبب سيكون..
إخوانى.. أخواتى
إنه الدَستور المصرى.. دستور الأسياد، أو دستور العفاريت.

الأحد، ٤ مارس ٢٠٠٧

طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد


بعد أن رأيت صور أهالى وأطفال الإخوان المحالين إلى المحاكمة العسكرية، والممنوعين من التصرف فى حر أموالهم التى سهروا عليها الليالى، وتعبوا فى تكوينها دون أن يقترضوا من بنوك، ودون أن يرتشوا من مال عام، ودون أن يشاركو ابناً من أبناء الكبار فى النصب على هذا الشعب المسكين..
رأيت صورهم، وشعرت بالمرارة.. مرارة الظلم، ومرارة الانكسار.. مرارة الاستبداد، ومرارة العجز..

وكنت أسأل نفسى هل يملك هؤلاء من الأحاسيس ما يملكه البشر الذين خلقهم الله، وكرمهم على سائر مخلوقاته؟!!

هل يشعر هؤلاء بمعنى بكاء طفل حرم من أبيه؟

هل يشعرون بلوعة زوجة خطف منها زوجها أمام عينها، وروعت فى وقت السحر، وانتهكت حرمة بيتها؟

هل يشعرون بانكسار أب سُلب منه ابنه البار، وهو فى أشد الاحتياج إليه وقت هرمه؟!!

وبالطبع لم أجد إجابة تحمل معنى للإنسانية، أو تحمل معنى للرحمة..

ولكنها "طبائع الاستبداد"

هكذا تذكرتها، وهكذا تدارستها فى كتاب عبد الرحمن الكواكبى الرائع "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".

هى هى نفس الطبائع.. هى هى نفس القسوة..

هى هى نفس الوجوه الكالحة التى تساعد الاستبداد وتشد من أزره على حساب الأمة..

رجال دين، ورجال علم وثقافة، وعائلات، وقضاة، ورجال شرطة، ورجال أعمال..

هى هى نفس طبائع الاستبداد.. هو هو نفس الإفساد..

إفساد الأخلاق، إفساد التربية..

كل هذا يتكرر عند المستبدين..

فى العصور السحيقة، والحديثة، وفى عصور الجهل، والعلم، وفى عصور الانحطاط، والرقى..

الطبائع واحدة، والأشخاص مختلفون..

وأقتبس من كتابه الرائع كلمات تصف المستبدين، وتـُعرف بهم، وبطبائعهم.. كما تعرف بطبائع شعوبهم المستعبَدة ودورهم فى هذا الاستبداد:

"المستبد يتحكم فى شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدى فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق، والتداعى لمطالبته".


"المستبد إنسان مستعد بالطبع للشر، وبالإلجاء للخير، فعلى الرعية أن تعرف ما هو الخير، وما هو الشر؛ فتلجىء حاكمها للخير رغم طبعه، وقد يكفى للإلجاء مجرد الطلب إذا علم الحاكم أن وراء القول فعلا. ومن المعلوم أن مجرد الاستعداد للفعل يكفى شر الاستبداد"


"المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم دراً وطاعة، وكالكلاب تذبلاً وتملقاً. وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خدمت خدمت، وإن ضُربت شرست، وعليها أن تكون كالصقور لا تـُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصيد كله، خلافاً للكلاب التى لا فرق عندها أُطعمت أو حتى حرمت من الطعام. نعم على الرعية أن تعرف مقامها هل خلقت خادمة لحاكمها، تطيعه إن عدل وجار، وخلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف، أم هى جاءت به ليخدمها لا ليستخدمها!. والرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه فى يدها لتأمن من بطشه؛ فإن شمخ هزت به الزمام، وإن صال ربطته".


هكذا طبائع الاستبداد، وهكذا تكون مصارع الاستعباد.. كلاهما بيد الرعية لا بيد غيرها..

فالرعية النائمة، تستحق راعياً مستبداً، والرعية الواعية تستحق راعياً مسؤولا.

وليعلم الجميع أن الله عادل، لا يظلم عباده أبداً، كما أنه لا يترك أبداً ظالماً دون عقاب فى الدنيا قبل الآخرة..

وكما ذكر الكواكبى نقلاً عن الأخبار المأثورة:

"الظالم سيف الله ينتقم به، ثم ينتقم منه".

و"من أعان ظالماً على ظلمه سلطه الله عليه"


وليعلم معاونوا الظالمين (قضاة، أم جنوداً، أم صحفيين، أم كتاب) أيضاً ما ورد فى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعان ظالما بباطل ليدحض حقا فقد برىء من ذمة الله عز وجل وذمة رسوله".

و"من أعان على خصومه بظلم، أو يعين على ظلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع".


وليعلم المُستعبَدون الصامتون الساكتون المتفرجون قوله تعالى:

"واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة".

و قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا بيده، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".

إخوانى.. أخواتى
كما تكونوا يولّ عليكم.