الأربعاء، ١٠ ديسمبر ٢٠٠٨

عزازيل

Azazil

كانت علاقتى بالأدب - ولا تزال - علاقة ضعيفة؛ فأنا بطبيعتى أحب الوقائع، والأحداث، ولا أستمتع بالعالم الافتراضى، والخيال الذى يستهويه الأدباء. كما أحب اللغة الصريحة الواضحة، ولا أميل إلى التعبيرات الضمنية التى هى المحبرة الأولى للأدباء والقصاصين.

لم أخرج عن هذا الطور أبداً إلا فى روايات نجيب الكيلانى؛ لأنها فى غالبها معبرة عن مجموعة من القيم التى تقربها من لغة العقل، وتحليلاته أكثر ما تقربها من لغة الخيال، وتضميناته.

ولكن رواية "عزازيل" - إن صحت تسميتها بالرواية، أدخلتنى مرة أخرى فى عالم الأدب الرحيب الذى ينقل إليك المعانى، والقيم، والتمارين العقلية العظيمة فى سلاسة جريان الماء فى جدوله الذى تحيطه الخضرة، وتعلوه الزرقة، وتشدو حوله العصافير.

سمعت ما أثير حول هذه الرواية من ضجة، وانفعالات، واتهامات؛ إلا أننى لم أنتبه، ولم أتطلع لمحاولة فهم ما يجرى؛ لأنها فى النهاية رواية.

إلا أن رسالة بريدية حملت مرفقاً به الكتاب كاملاً قبل عطلة عيد الأضحى، دفعتنى للفضول؛ فانتظرت قدوم العيد، وفراغى الجزئى من أعبائى الحياتية، وفتحت الرواية مستطلعاً على حاسبى الشخصى؛ فلم أتركها - وهى التى تزيد على الثلاثمائة وخمسين صفحة - إلا وقد قرأتها رقاً رقاً، وسطراً سطراً.

فوجئت حين قرائتها بأنها سيرة ذاتية - وليست رواية بالمعنى التقليدى للكلمة - لراهب مصرى اسمه "هيبا" كتبها باللغة السريانية القديمة "الآرامية" منذ ما يزيد على ألف وخمسمائة عام.

كتبها الرجل تأريخاً لحياته، ولما يمور به عقله من أفكار، واضطرابات طوال سنى عمره التى قضاها ما بين صعيد مصر الذى نشأ فيه وترعرع، وبين الإسكندرية التى عاش فيها قليلاً من الزمن ثارت فيه الشجون والأحزان والقلاقل، وبين أورشليم - القدس - التى ذهب إليها حاجاً لكنيسة القيامة، وأخيراً قرب مدينة حلب فى الدير الذى دفن فيه رقائقه التى خط عليها سيرته الذاتية، وأخفاها عامداً حتى يأتى أوان استكشاف أسرارها، ومفاجآتها الذى لم يحن إلا فى عام 1997م فى خرابة أثرية لأطلال دير عاش فيه هذا الراهب الطبيب ردحاً من الزمن.

كان ما فى سيرة "هيبا" من تاريخ، وأحداث، ووقائع، ووقفات، وتحليلات كفيلاً بالفعل بأن يثير ضجة شديدة لجرأتها فى طرح رؤية راهب عايش المئين الأولى من عمر المسيحية، وما اعتراها من تغيرات، وقوانين إيمانية كتبت حروفها باللون الأحمر القانى.

كنت سعيداً وأنا أقرأ نفور الراهب من كل ما يخالف فطرة الإنسان التى فطر الله الناس عليها.. كنت مبهوراً وأنا أرى العقل البشرى - رغم فتور الوحى الإلهى - وهو يحاول الوصول للحقيقة، والإيمان الذى شوهه أصحاب المصالح؛ وإن سُمُّوا زوراً بهتاناً بأسماء وألقاب وأوصاف ما أنزل الله بها من سلطان.

كانت سعادتى أكثر بالرقى الإيمانى، والسمو الأخلاقى لرجل يقيس الأشياء بالفطرة، والمنطق معاً.. وبالقلب، والعقل سوياً.

لم أكن أعلم أن ثمة رهباناً كانوا يقضون الليالى الطوال - فعلاً لا قولاً - فى القرب من الخالق العظيم، وفى الصلاة إليه.. لم أكن أعلم أن منهم الزاهد فعلاً فى الدنيا زهداً مطلقاً - وإن خالف ذلك فطرة الإنسان، ولكنى رأيته بعينى "هيبا" لمن كان طعامهم مرة واحدة فى اليوم، ونومهم سويعات قليلة فى جوف الليل بعد صلاة طويلة لرب الأرباب.

رأيت من "هيبا" الضعف البشرى نحو الدنيا، ومباهجها، وعجائبها رغم محاولاته المتكررة للتغلب على هذا الضعف، وعلى هذه المنكرات - كما كان يراها دينه الذى تربى عليه.

رأيته وهو الطبيب الطموح الذى يعالج أمراض الفقراء والمحتاجين دون أجر ابتغاء للأجر ومساعدة للمحتاجين، ورأيت انفعالاته والأسقف "كيرلس" ينهاه عن طبه ضمناً، وهو يسأله: "من هو أعظم المتبحرين فى الطب؟" ثم وهو يرد على إجابته التى كانت تشير إلى "أمنحتب"، أو "أبقراط، أو "هيروفليوس"، أو "جالينوس" بقوله: "خطأ.. إجاباتك كلها خاطئة، فالذين ذكرتهم كلهم وثنيون، ولم يستطع واحد منهم أن يبرئ المجذوم والأبرص، وأن يحيى بلمسة من يده إنساناً مات"، ثم بقوله: "إن ربنا يسوع المسيح، أيها الراهب، هو بحر الطب، فتعلم منه، ومن سير القديسين والشهداء، واغترف البركات بيد تقواك وإخلاصك".

رأيت اضطرابه، وغضبه الصامت، ونفوره، والأسقف "كيرلس" يصف له العلوم بأنها: "خزعبلات المهرطقين، وأوهام المشتغلين بالفلك والرياضيات والسحر. فاعرف ذلك وابتعد عنه، لتقترب من سُبـُل الرب وطرق الخلاص، إن كنت تريد تاريخاً؟ إليك التوراة وسفر الملوك. أو تريد بلاغة؟ إليك سفر الأنبياء. أو تريد شعراً؟ إليك المزامير. وإن أردت الفلك والقانون والأخلاق، فإليك قانون الرب المجيد.".

وكانت صدمات "هيبا" الكبرى حين رأى أتباع الرب - المزعومين - وهم يقتلون أباه بوصفه: "لم أستطع منع ما انفلت من دموعى، حين وصفت له فزعى المهول فى ذلك اليوم المروّع، يوم كنت فى التاسعة من عمرى؛ فقد تربص بنا عوام المسيحيين عند المرسى الجنوبى، القريب من بوابة المعبد. كانوا يختبئون خلف الصخور من من قبل رسوّ القارب، ثم هرولوا نحونا كأشباح فرت من قعر الجحيم. قبل أن نفيق من هول منظرهم كانوا قد وصلوا إلينا من مكمنهم القريب.. سحبوا أبى من قاربه، وجرُّوه على الصخورليقتلوه طعناً بالسكاكين الصدئة التى كانوا يخبئونها تحت ملابسهم الرثة. كنت أزوم متحصِّنا بانكماشى فى زاوية القارب، وكان أبى غير متحصِّن بشىء، يصرخ تحت طعناتهم مستغيثاً بالإله الذى كان يؤمن به.".

كانت صدمته حينها من العوام، ولكن الطامة الكبرى كانت حين قتلت الأستاذة وعالمة الرياضيات، والمنطق "هيباتيا" على يد ابن الكنيسة بطرس القارئ بعد توجيه مباشر من رأس الكنيسة واسقفها حينذاك "كيرلـٌّس" بشكل بشع يصفه "هيبا" الراهب: "آه. لما التقط بطرس السكين الطويلة الصدئة، رآه سائق عربة هيباتيا، فقفز كالجرذان وجرى متوارياً بين جدران البيوت، كان بإمكان السائق أن يسرع بحصانيه فى الشارع الكبير. لكنه هرب، ولم يحاول أحد أن يلحق به! ظل الحصانان يسيران مرتبكين، حتى أوقفهما بطرس بذراعة الملوحة بالسكين.. أطلـَّت هيباتيا برأسها الملكى من شباك العربة، كانت عيناها فزعة مما تراه حولها. انعقد حاجباها، وكادت تقول شيئاً، لولا أن بطرس زعق فيها: جئناك يا عاهرة، يا عدوة الرب. امتدت نحوها يده الناهشة، وأيدٍ أخرى، حتى صارت كأنها ترتقى نحو السحاب فوق أذرعهم المشرعة، وبدأ الرعب فى وضح النهار. الأيادى الممدوة كالنصال، منها ما فتح باب العربة، ومنها ما شد ذيل الثوب الحريرى، ومنها ما جذب هيباتيا من ذراعها فألقاها على الأرض. انفلت شعرها الطويل الذى كان ملفوفاً كالتاج فوق رأسها، فأنشب فيه بطرس أصابعه، ولوى الخصلات حول معصمه، فصرخت، فصاح: باسم الرب، سوف نطهر أرض الرب.." وبعد وصف تقشعر له الأبدان كانت نهاية هيباتيا البشعة على أيدى جند الرب - المزعومين - فى صورة بيانية اقتربت من تصوير المشهد بكاميرا ثلاثية الأبعاد تمنعنى الإطالة من نقلها، وأكتفى بنهايتها التى يذكر فيها: "الذئاب انتزعوا الحبل من يد بطرس وهم يتصايحون، وجرّوا هيباتيا بعد ما صارت قطعة، بل قطعاً، من اللحم الأحمر المتهرئ. عند بوابة المعبد المهجور الذى بطرف الحى الملكى البرخيون ألقوها فوق كومة كبيرة من قطع الخشب، وبعدما صارت جثة هامدة.. ثم أشعلوا النار.. علا اللهب، وتتطاير الشرر.. وسكتت صرخات هيباتيا، بعدما بلغ نحيبها من فرط الألم، عنان السماء.".

هنا ترك "هيبا" الإسكندرية التى أتى إليها وكان يظنها مدينة للرب؛ فوجدها مدينة لعزازيل (الشيطان).

وفى موضع آخر يذكر "هيبا" فى مذكراته هذا الموقف المُعبـِّر عما يعتنقه من أفكار: "لما رأيت الأسقف أول مرة، استغربت واحترت، لأنه أطلَّ علينا من مقصورة مذَّهبة الجدار بالكامل، هى شرفة واحدة، فوقها صليب ضخم من الخشب، معلَّق عليها تمثال يسوع المصنوع من الجصِّ الملون. من جبهة المسيح المصلوب ويديه وقدميه، تتساقط الدماء الملونة بالأحمر القانى. نظرت إلى الثوب الممزق فى تمثال يسوع، ثم إلى الرداء الموشَّى للأسقف! ملابس يسوع أسمال بالية ممزقة عن صدره ومعظم أعضائه، وملابس الأسقف محلاة بخيوط ذهبية تغطيه كله، وبالكاد تظهر وجهه. يد يسوع فارغة من حطام دنيانا، وفى يد الأسقف صولجان أظنه، من شدة بريقه، مصنوعاً من الذهب الخالص. فوق رأس يسوع أشواك تاج الآلام، وعلى رأس الأسقف تاج الأسقفية الذهبى البراق.. بدا لى يسوع مستسلماً وهو يقبل تضحيته بنفسه على صليب الفداء، وبدا لى كيرلس مقبلاً على الإمساك بأطراف السماوات والأرض.".

كانت هذه الصورة الدنيوية المفرطة المرسومة فى المقطع السابق، بالإضافة إلى القسوة البالغة فى الموصوفة فى المقطع الذى يسبقه كافية لأن تزيد "هيبا" اضطراباً، وكفيلة بأن تزيد عقله المهتاج هيجاناً؛ فترك الإسكندرية، وذهب إلى حيث الراحة والهدوء، إلى أرض الديانات القديمة.

إلا أن حكمة بعض النساك، والقساوسة من أمثال الراهب الصموت الذى قال أمام "هيبا": "وليغفر الرب للإسكندرانيين ما فعلوه، وما يفعلونه الآن، وما سوف يفعلونه غدا! فكنيسة الإسكندرية لن تكف أبداً حتى تنهار، أو تنهار هذه الديانة كلها". أو ما قاله "نسطور": "يا هيبا ما يجرى فى الإسكندرية لا شأن للديانة به.. إن أول دم أريق فى هذه المدينة، بعد انتهاء زمن الاضطهاد الوثنى لأهل ديانتنا، كان دماً مسيحياً أراقته أياد مسيحية! فقد قتل الإسكندرانيون قبل خمسين سنة أسقف مدينتهم جورجيوس، لأنه كان يوافق على بعض آراء أريوس السكندرى. وقتلُ الناس باسم الدين، لا يجعله ديناً. إنها الدنيا التى ورثها ثيوفيلوس، وأورثها من بعده ابن أخته كيرلس. فلا تخلط الأمور ببعضها يا ولدى، فهؤلاء أهل سلطان لا أصحاب إيمان.. أهل قسوة دنيوية، لا محبة دنيوية.".. كانت هذه الكلمات هى التى تحفظ إيمان هيبا، إلا أن هؤلاء.. "نسطور" ومن سار على نهجه طردتهم المجامع المقدسة، ولعنتهم، وحرمتهم من مناصبهم الدينية!!

لم تخلُ السيرة الذاتية من بعض الفحش الذى ذكره "هيبا" حرصاً على أمانة السرد الحياتى، وحرصاً منه أيضاً على إظهار الضعف البشرى الطبيعى، والذى رأيته أنا أيضاً صورة من صور الرجوع إلى الطبيعة البشرية التى تحاول الرهبنة المبتدعة أن تحرم الإنسان منها.

أرى "هيبا" الممزق بين ما يقرأه فى قوانين الإيمان التى صاغتها المجامع المقدسة، وبين إيمانه الفطرى الذى آمن به الأسقف "نسطور"، والأسقف "تيودور" الذين حكم بكفرهما المجمع المقدس؛ لأنهما رفضا كون مريم العذراء أما للإله! أراه "بحيراً الراهب"، أو "ورقة بن نوفل".. أراه باحثاً عن الحقيقة بفطرته التى أرادوها أن تطمس بقوانين، وابتداعات ما أنزل الله بها من سلطان.. أراه من أهل الفترة الذين ذاقوا مرارة فتور الوحى، والانفصال المؤقت للسماء عن الأرض.. رحم الله "هيبا".

أظن أن هذه التطوافة على سيرة الراهب المصرى "هيبا" كافية كى لا يمل القارئ. كما أظن بأنها كفيلة بأن تشجع زوار المدونة على البحث سريعاً عن الكتاب كى يلتهموه كما التهمته.Yosouf Zeidan

كما أبدى إعجابى الشديد بمترجم هذه السيرة، والعالم الكبير "يوسف زيدان" على لغته البديعة،  وترجمته الراقية، وعمله الدءوب الذى استمر سبع سنين عكف فيها على إخراج هذه التحفة النادرة للوجود، فجزاه الله خير الجزاء، وقدّر له الخير حيث كان.

وحمداً لله أن هداه إلى التراجع عن قراره بتأجيل طبع ونشر هذا العمل البديع إلى ما بعد وفاته خوفاً من مصير الموت المفجع والمفاجئ للأب "وليم كازارى" الذى أشرف بنفسه على التنقيبات الأثرية لهذا الدير الذى وجدت الرقوقه أسفله!!!

إخوانى.. أخواتى

لم أقصد فى هذا الكتاب إساءة لأهل دين يؤمنون بما لا أؤمن به؛ ولكنى تحدثت عن فترة قاربت الستمائة عام فتر فيها الوحى - لحكمة يعلمها الله - فـَضَلَّ فيها الإنسان، وحار أثناءها المؤمنون، وهوت الإنسانية فى هوة سحيقة حتى أتى رسولنا الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - فأنقذ العالم من الضياع، وعدنا فى حاجة للرجوع إلى دينه - حقاً وصدقاً - كى ننتشل العالم مرة أخرى مما يمور فيه.