"لم ير الأتقياء فى حكم أحد من الخلفاء الأمويين ما يوافق مثلهم العليا، إلا عمر بن عبد العزيز، الذى أسهم جهله بالشئون السياسية فى تدهور أحوال الدولة، ثم سقوطها، وانتقال السلطة من أيدى العرب إلى الفرس!!".
"قد تكونت صور شوهاء من الصعب تغييرها عن الحجاج بن يوسف... لمجرد قسوته فى استئصال شأفة المارقين الخارجين على الدولة، وهو الذى شهد له الأوربيون بأنه أحد أعظم الإداريين فى تاريخ العالم".
ليس هذا كلامى بالطبع، ولا هو كلام رجل نزيل مستشفى للأمراض العقلية يظن نفسه عالماً ببواطن الأمور التى أخفاها التاريخ.. ولا قاله رجل مسطول فى قعدة مزاج استدعت إحضار التاريخ بعد الانفصال عن الحاضر..
ولكن هذا الكلام هو كلام المفكر اليسارى المعروف "حسين أحمد أمين" فى مجلة المصور فى أعداد مسلسلة لعام 1983م، يحكى فيها التاريخ الإسلامى من وجهة نظر "باذنجانية".
ولا أدون هنا عن هذا الكلام الساذج رداً عليه؛ فقد كفانى المؤونة من هو أكثر علماً، وأكثر قدرة على الرد، وهو الشيخ الدكتور/ يوسف القرضاوى فى كتابه القيم "تاريخنا المفترى عليه" الذى أقرؤه فى هذه الأيام، والذى قرأت فيه لأول مرة هذه القراءة التاريخية الحديثة للمفكر اليسارى والمثقف "حسين أحمد أمين".
ما شغلنى حين قرأت هذا الكلام، هو رؤية من يُسمون بـ "المثقفين" للسلطة، وارتماؤهم فى أحضانها، بل والتبرير لها..
وما شغلنى أيضاً هو من أبرز هؤلاء، ومن جعلهم مثقفين أصلاً، ومن أعطاهم هذا القدر من الشهرة.. إنها السلطة التى لمّعتهم حين كانت هناك وزارة للإرشاد القومى.. حين كانت الصحافة تملكها الدولة فقط.. حين كانت الدولة تحدد من يكتب، ومن لا يكتب..
حيث كانت السلطة تحدد من هم المثقفون، ومن هم الرجعيون.. وحيث كانت تحدد من هم الوطنيون، ومن هم أعداء الوطن..
هؤلاء من يوصفون بالمثقفين، وأستحضر التاريخ لأرى: أكان هؤلاء فى صف شعوبهم، أم كانوا فى صف سلاطينهم الظالمين؟
أستحضر آيات الثناء والمديح التى كيلت للحكام من هؤلاء المثقفين فى الخمسين سنة الأخيرة..
أستحضر هؤلاء فى عهد الملك.. صامتين خانعين..
ثم أستحضرهم فى عهد عبد الناصر ناقدين للعهد الملكى.. مادحين للعهد الجديد.. مؤلفين الروايات والكتب عن عظمة الثورة، وعظمة ضباطها، وخيانة الملك وحاشيته..
أستحضرهم فى عهد السادات.. حيث"إحنا بتوع الأوتوبيس"، وحيث السخرية من الاشتراكية، والارتماء فى أحضان الليبرالية..
أستحضر سهير القلماوى وهى تمنح جيهان السادات - الحاصلة على الثانوية العامة قبل تولى زوجها للرئاسة، وهى تمنحها درجة الدكتوراة فى اللغة العربية فى عهد السيد الرئيس المؤمن أنور السادات..
أستحضر رفعت السعيد، وهو عضو معين فى مجالس شورى المرحلة الميمونة..
وأستحضر جمال الغيطانى رئيس تحرير أخبار الأدب فى العهد الميمون، حيث الأدب أن تخنع وترضى بالفتات، وتسبح بحمد السلطان، أو أن تسكت على ما يفعله..
وأستحضر أحمد عبد المعطى حجازى، رجل التاريخ الذى يقرأ التاريخ بالمزاج، يقرؤه من مصادر الكتاب المدرسى، مصادر السلطة التى تحمى مصر من المتأسلمين، وتسلمها للفاسدين
وأستحضر صلاح عيسى رئيس تحرير جريدة "القاهرة" الذى يدافع عن وزير ثقافته هو بالشكل المميت له ولجريدته..
وأستحضر سمير سرحان، وهو يكتب قصيدة مدح فى طفلة صغيرة لم تبلغ الخامسة من عمره، لأنها بنت أحد أمراء الخليج..
والكثير والكثير..
هؤلاء هم مثقفو النسخة القديمة الذين صدعوا أدمغتنا بالحرية..
حرية المرأة.. حرية المجون.. حرية الوقوف فى صف السلطة.. أما حرية الشعوب ففيها نظر!!
حريتهم هم فى الكتابة، والظهور فى وسائل الإعلام ليحدثونا عن التقدمية، والرجعية.. أما حرية الحديث عن السلطان وجوره، فلا.
أما المثقفون الجدد فلم تستطع السلطة الجديدة بجهلها، وغبائها أن تصنعهم، لم تستطع أن تصنع مثقفيها الخاصين بها، فتعاملت مع القدامى، رغم أنهم إلى القبر أقرب، وإلى غياب العقل أبرز..
ورغم أن ماسحى الجوخ كثيرون، والمطبلون والمزمرون أكثر؛ إلا أنهم لا يملكون من اللسان ما ملكه أساتذتهم السابقون، ففشلوا كما فشلت سلطتهم التى ارتموا فى أحضانها..
لذلك فأبشر نفسى بأن هؤلاء قد شاخت أعمارهم، وأن الساحة ستخلوا قريباً من أمثالهم إلى غير رجعة؛ حتى يفقد السلطان من يدافع عنه، ويزين للناس ظلمه..
حينها سيبقى السلطان وحيداً يحيطه مجموعة من الجهّال، هم إلى توريطه سائرون، وإلى لفظ الناس له لذاهبون.. جهلاً وغباءً، وما عمرو عبد السميع، وتامر أمين، وفيد فوزى عنا ببعيد..
إخوانى.. أخواتى
إن كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد حذرنا من أن نغشى أبواب السلاطين بقوله: "إياكم وأبواب السلطان"؛ فلنحذر نحن ممن ارتادوها، وكرموا فى قصورها، ورأسوا تحرير جرائدها.. فإنهم وسلاطينهم سواء!!!
والسلام
جزاكم الله خيرا على هذا المقال
ردحذف