الأربعاء، ٢٦ مارس ٢٠٠٨

جلال أمين: ماذا علمتنى الحياة


"منذ سنوات كثيرة، رأيت فيلماً بولندياً صامتاً لا يزيد طوله على عشر دقائق، ظلت قصته تعود إلى ذهنى من وقت لآخر، وعلى الأخص كلما رأيت أحداً من أهلى أو معارفى يصادف فى حياته ما لا قِبَل له برده أو التحكم فيه.
تبدأ القصة البسيطة بمنظر بحر واسع، يخرج منه رجلان يرتديان ملابسهما الكاملة، ويحملان معاً، كل منهما فى طرف، دولاباً عتيقاً ضخماً، يتكون من ثلاث ضلف، وعلى ضلفته الوسطى مرآة كبيرة. يسير الرجلان فى اتجاه الشاطئ وهما يحملان هذا الدولاب بمشقة كبيرة، حتى يصلا إلى البر فى حالة إعياء شديد، ثم يبدآن فى التجول فى أنحاء المدينة وهما لا يزالان يحملان الدولاب. فإذا أرادا ركوب الترام حاولا الصعود بالدولاب وسط زحام الركاب وصيحات الاحتجاج، وإذا أصابهما الجوع وأرادا دخول مطعم، حاولا دخول المطعم بالدولاب فيطردهما صاحب المكان.
لا يحتوى الفيلم إلا على تصوير محاولاتهما المستميتة فى الاستمرار فى الحياة وهما يحملان دولابهما الثقيل، إلى أن ينتهى بهما الأمر بالعودة من حيث أتيا، فيبلغان الشاطئ الذى رأيناه فى أول الفيلم، ثم يغيبان شيئاً فشيئاً فى البحر، حيث تغمرهما المياه وهما لا يزالان يحملان الدولاب.
منذ رأيت الفيلم وأنا أتصور حالى وحال كل من أعرف وكأن كلاً منا يحمل دولابه الثقيل يأتى معه إلى الدنيا ويقضى حياته حاملاً إياه دون أن تكون لديه أية فرصة للتخلص منه، ثم يموت وهو يحمله. على أنه دولاب غير مرئى، وقد نقضى حياتنا متظاهرين بعدم وجوده، أو محاولين إخفاءه، ولكنه قدر كل منا المحتوم الذى يحكم تصرفاتنا ومشاعرنا واختياراتنا أو ما نظن أنها اختياراتنا، فأنا لم أختر أبى وأمى أو نوع العائلة التى نشأت بها، أو عدد إخوتى أو موقعى بينهم، ولم أختر طولى أو قصرى، ولا درجة وسامتى أو دمامتى، أو مواطن القوة والضعف فى جسمى وعقلى. كل هذا على أن أحمله أينما ذهبت، وليس لدىّ أمل فى التخلص منه."


كانت هذه القصة البسيطة الحكيمة البليغة هى نهاية المقدمة التى كتبها الدكتور/ جلال أمين، أستاذ الاقتصاد، وابن الكاتب الكبير أحمد أمين، لمذكراته الشخصية، أو سيرته الذاتية والتى أسماها "ماذا علمتنى الحياة؟".

قرأت الكتاب كاملاً وشدنى كل مقطع فيه، بل وكل كلمة تـَنظـِم سطوره..
رأيت فى الكتاب فرصة للاستفادة من تجارب الآخرين الحياتية، والتى أحسب أننا - نحن الإسلاميين أو معظمنا على الأقل - نفتقدها بشدة..
نفتقدها مرتين.. مرة حين لا نطلع على كتابات الآخرين – أياً كانت أفكارهم أو مواقعهم السياسية والفكرية؛ لأننا منشغلون بأفكارنا نحن، ورؤانا نحن، وبالتالى فلا داعى لأن ننهل من معين نحسب ما به عطناً، أو أصاب ماءه ما لا يصح الوضوء به.
ونفتقدها ثانية حين يقصر الإسلاميون أنفسهم فى كتابة سيرهم الذاتية، ومفكراتهم الشخصية؛ وذلك خوفاً من الرياء، أو حذراً من تصادم قد لا يليق بالداعية أن يقع فيه حين يذكر رأيه فى حدث رآه، أو فى تصرف شخص أساء فيه.
فعلى حد علمى لم يكتب أحد من الإسلاميين – الحركيين أو المفكريين على حد سواء – مذكراته الكاملة سوى الشيخ/ القرضاوى فى "سيرة ومسيرة"، وقبله أ/ محمود عبد الحليم فى "الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ"


لذا فقد بهرنى الكتاب، وبهرنى صدق كاتبه، وصراحته الشديدة الناقدة لنفسه، وللمتعاملين معه فى مسيرة حياته، بل وحتى لوالديه – حتى لو اختلفت معه فى الرأى فى أحقيته فى نقد والديه علناً.
فهو يرى – وأتفق معه فى الرأى – صحة ما قاله كاتبه الأثير "جورج أورويل": "إن كتاباً فى السيرة الذاتية لا يمكن أن يصبح محلاً للثقة إلا إذا كشف بعض الأشياء التى تشين صاحبها".
إن هذا الكتاب فتح لى أبواباً واسعة لإدراك كم نحن منغلقون.. لا نرى إلا أنفسنا، ولا نسمع إلا أنفسنا، ولا نخاطب إلا أنفسنا..


علمت منه أننا ممن يتركون الحكمة، رغم أننا أحق الناس بها..
كان الكتاب بالنسبة لى نافذة واسعة اطلعت فيها على مصر التى لم نعرف، ولم نكن لنعرف إلا من خلال أعين من عاشوها، وعايشوا ساستها، وكتابها، ومفكريها، وأدباءها..
تجول الرجل بى فى مصر ما قبل الثورة من خلال زاوية صباه، وأعين والده الكاتب الكبير، والمفكر النابه أحمد أمين..


رأيت بعينيه واقع التعليم فى مصر على مر سبعين عاماً، وكيف كان التعليم، ثم أين ذهب..
ورأيت مدى تغير المصريين، وأخلاقهم على مدار ثلاثة أجيال متعاقبة، اختلفت فيما بينها القيم، والأولويات، بل وأهداف الحياة.


شاهدت بين كلمات سطوره كم الهوة التى تفصل مثقفى مصر عن رافدنا الإسلامى.. فعرفت ما يشكل وجدانهم؟ وما روافدهم التى يتغذون منها؟ وعرفت أننا حين نتحاور معهم فإننا نتحاور حوار الطرشان؛ فهم لا يسمعون إلا أنفسهم، ونحن لا نخاطب إلا أنفسنا؛ لذا فإن الحوار – دائماً – ما يفشل، أو على الأقل – لا يجنى أى ثمار.
فالرجل – وبصراحته المعهودة – لم يذكر مرة أنه قد شاهد والده – والموصوف بالمفكر الإسلامى – وهو يصلى، أو حتى وهو يصوم.
والرجل أيضاً يذكر الكتب التى كان حريصاً على قرائتها، أو النهل منها، أو مراجعه الكبرى التى يحسب أن الخلاص فى قرائتها، ولم يكن بينها كتاباً واحداً ذا صلة بمرجعيتنا الإسلامية.
كانت المعرفة غربية، والحكمة غربية، والثقافة غربية..
وشعرت كم نحن مقصرون حين لم نصل لهؤلاء، ولم نقترب منهم، أو من حكمتهم التى شعرت بها فى كلمات هذا الرجل، وعلمه الغزير.


الكتاب فى مجمله رائع، بل ومدهش.. تنهل الحكمة من دفتيه رقراقة عذبة – حتى ولو اختلفت مع مكونات بعض هذه الحكمة.
وسأحاول أن أعلق على هذا الكتاب فى مجموعة من التدوينات القادمة؛ لكى أنقل لكم بعضاً من الحكمة التى حملتها هذه السيرة لصاحبها الرائع د. جلال أمين، ومعلقاً عليها ببعض التعليقات التى قد تفيدنى، وتفيد غيرى بإذن الله.

الاثنين، ٢٤ مارس ٢٠٠٨

ساويرس الدحلانى

لم أكن من المتحمسين للحملة التى تم الدعوة لها على شبكة المعلومات الدولية "الانترنت" لمقاطعة شركة موبينيل المملوكة للملياردير المصرى "نجيب ساويرس" بسبب هجومه على الحجاب، ووصفه له بأنه زى "وهَّابى"، وأنه لم يكن يوماً زياً من أزياء المصريين.

لم يكن عدم تحمسى وقتها تأييداً لساويرس، أو حتى تعاطفاً معه؛ بل إن تصريحه وقتها قد أصابنى بغضب شديد؛ بل وأشعرنى أن هذا الرجل ذو أجندة خاصة، وأنه يشترك فى هذه الأجندة - إن لم يكن منفذاً لها - مع جهات أخرى قد تكون مجهولة، أو معلومة؛ ولكن لا دليل مادى عليها.
كان عدم تحمسى نابعاً وقتها من خوفى من أن تكون الطائفية هى الأرضية التى تتحرك من خلالها الدعوة؛ فأنا ما زلت أرفض فكرة البيع والشراء على أرضية الطائفية، بل أشعر أن الشراء من التاجر المسيحى كما المسلم يشعره بالأمان وسط المسلمين؛ وبالتالى يزداد ارتباطه بهذا البلد، وأهله؛ وبالتالى ابتعاده عن كره المسلمين كما يريد أعداء مصرنا الحبيبة؛ كما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان حريصاً على ارتباط أهل المدينة من غير المسلمين بالمدينة؛ لذا فإنه لم يستنكف عن رهن درعه عند يهودى قبل موته.

كنت أسمع منذ زمن - ليس بالقريب - عن أسباب للتضخم المفاجئ لشركات عائلة "ساويرس"، وعن احتكارها مجالات بعينها لا يستطيع أحد أن يقترب منها..

كنت أسمع عن ارتباط هذه الشركات ببعض الجهات الأجنبية المانحة، أو الأمنية، أو العسكرية فى مشروعاتها الداخلية فى بلادنا العربية، بل والإسلامية.. وكنت أسمع عن أن هذه الأعمال تسند بالأمر المباشر لشركات "أوراسكوم" للمقاولات، أو للاتصالات، أو للمعلومات..


كانت هذه الثقة من الجهات الأجنبية أمراً يستحق التوقف؛ ولكنه – وللأسف – كان دون دليل مادى واضح!!
وكانت المفاجأة فى الأسبوع الماضى حين غضب الملياردير "نجيب ساويرس" غضباً شديداً من
مقالة نشرت فى جريدة "المصرى اليوم" للكاتب "سيد على" وصف فيها المدعو "محمد دحلان" بأنه على ارتباط بالمخابرات الأمريكية وأجندتها الخاصة فى المنطقة، وداعياً إلى عدم استقباله، وأمثاله فى مصر؛ لأن حذاء أى مسئول مصرى – على حد قول سيد على – أشرف من قامة دحلان، وأمثاله..


انفعل الملياردير "نجيب ساويرس" وبعث
بخطاب شديد اللهجة للجريدة الليبرالية - التى يعد أحد مالكيها - منتقداً فيها وصف صديقه "محمد دحلان" بهذه الأوصاف، واعتبره من المناضلين الذين تتعمد إسرائيل تشويههم، وتشويه صورتهم فى المنطقة؛ وأننا – أى العرب – نسير وراء هذه الادعاءات دون دليل، ودون اعتبار للتضحيات التى قدمها الرجل – على حد وصفه!!!
واعتمد الملياردير "ساويرس" فى التدليل على وطنية "دحلان" بصداقتهما التى بدأت منذ عشر سنوات كاملة؛ خـَبـِر فيها الرجلَ، ووطنيتـَه.
ولم ينس الملياردير "ساويرس" أن يشير إلى أن حماس عميلة لسوريا، وإيران، وأنها جوَّعت شعبها، وأضاعته على عكس المناضل الكبير "محمد دحلان"!!!

إذن لقد انكشف المستور الذى ظل الملياردير "ساويرس" مُخفياً له طوال الفترة الماضية..
لقد كشف الرجل فى لحظة غضب عن صداقته بالمدعو "محمد دحلان" رجل الجهات الأجنبية التى تسند أعمالها بالأمر المباشر إلى شركاته فى المنطقة..
"ساويرس"، و"دحلان" إذن وجهان لعملة واحدة..
الاقتصاد الاستهلاكى المُوجَّه، وضرب المقاومة اجتمعا فى بوتقة واحدة، وتصادقا على أرضية واحدة؛ بل وينفذان أجندة واحدة..
تسرع ساويرس ونزع عن نفسه جزءً من ورقة التوت التى يستتر بها؛ فشاهدناه بصفات "الدحلانيين" الوطنيين!!!


كان ساويرس – ولا يزال – رجلاً غامضاَ بأمواله، وأعماله الموجودة فى مصر، والعراق، ونيجيريا، وبنجلاديش وغيرها..
لم نسمع عنه أبداً فى أعمال خيرية فى مصر – رغم سماعنا عن تبرعاته السرية الضخمة لطائفة بعينها فى مصر.
لم نسمع عنه – رغم ملياراته العديدة – متبرعاً لأهل فلسطين، ولم نسمع عنه متبرعاً لضحايا العبارة، ولا حرقى القطارات..
لم نسمع عنه بانياً أو متبرعاً لبناء مستشفى، أو مدرسة فى مصر..


لقد اعترف دحلان فى لحظة تجلٍ مع الإعلامى "عمرو أديب" بأنه كان يتلقى راتباً شهرياً وهو فى تونس قدره "خمسة آلاف دولار" تقديراً لتضحياته، ووطنيته، وأن هذه الخمسة آلاف دولار الشهرية هى التى كونت ثروته التى لا يعلم أحد قدرها حتى الآن.
ترى هل سيعترف صديقه "ساويرس" يوماً بالكيفية التى بدأ بها أعماله، ومشروعاته..
فلنترك للتاريخ الإجابة لنا عن هذا السؤال؛ لأن "ساويرس" لن يجيب عنه أبداً فى الأمد المنظور..
وحتى ذلك الحين؛ فأنا أرفض أن أساهم فى تضخم ثروة "دحلانى" آخر فى مصر.