الأحد، ٢٠ يونيو ٢٠١٠

الطريق إلى الفوضى (7) – عجز الثقة

يتوق جل المصريين إلى التغيير؛ فالنظام البائس، وأسياده، وأذنابه لم يتركوا قرية إلا أفسدوها، ولم يروا شعاع ضوء إلا أخمدوه..

وحيرة الناس (الواعين) لم تعد في الفساد وأهله؛ لأن الفساد قد صار مقرراً يومياً في حياة مصر وأهلها، ولكن الحيرة الأكبر تكمن فيمن يزعمون السعي إلى التغيير، وأين هم؟ وماذا يفعلون؟

وكل العوامل الماضية التي أشارت إليها سلسلة المقالات تشير إلى الحاجة الملحة والعاجلة للتغيير؛ لأن التأخير في التغيير يعني المزيد من الانهيار، والتحرك البطيء يزيد من سرعة الاشتعال..

والناظر إلى قوى التغيير الحقيقية – حالياً - في مصر يصاب بإحباط شديد؛ فهي:

  • إما نخبة مثقفة تعيش في أبراج عاجية لا علاقة لها بالواقع الفعلي – وليس النظري – المعاش.. نخبة لم تستطع أن تجذب إليها المطحونين - وإن حاولت التحدث باسمهم.. نخبة تجيد التظاهر والظهور والمعارضة، بينما هي غير موجودة في حياة الناس التي تزعم السعي لتغيير حياتهم..
  • وإما شباب غض يحلم بالتغيير، ويسعى إليه، ويكابد تارة مع "كفاية"، وأخرى مع "البرادعي".. لكنهم لا يجدون من من يأخذ بأيديهم إلى الطريق، ويدلهم عليه.. تأخذهم الحماسة في عالمهم الافتراضي، ويحاولون نقلها إلى العالم الحقيقي؛ فتصدمهم قسوة رجال الأمن, وقلة حيلة النخبة المزعومة..
  • أما الفريق الثالث، وهو الأكثر عدداً، والأرجى قدرة على التغيير.. الفريق الموجود – تقريباً - في كل قرية، وحارة في ريف مصر، وحضرها.. الفريق الأكثر وضوحاً في الأهداف – العامة، والمتوافقة مع مزاج المصريين العام، وانتمائهم الحضاري.. الفريق الأكبر تجذراً في عمق التاريخ المصري الحديث، بما يمثله ذلك من تراكم للخبرات، وتنوع في الأعمار.. هذا الفريق – الإخوان المسلمون – يمثل حاله الآن علامة استفهام كبرى لكل الحالمين بالتغيير.

فالإخوان المسلمون – رغم كل ما ذكر من ميزات يتفردون بها – إلا إنهم غير جادين في التغيير، وأقصد بالجدية هنا جدية التغيير العملية، وليست النظرية؛ فالحديث عن التغيير يختلف عن العمل نحوه، والغايات تحتاج إلى وضوح رؤية، وخطوات عملية، وهما ما تفتقدهما الجماعة حالياً..

فالإخوان المسلمون – بوضعهم الحالي – منشغلون بالتنظيم مستغرقون في تفاصيله أكثر من انشغالهم بالشأن العام، ومشاكله، فالإخوان:

  • يستهلكون طاقتهم في ترتيب تنظيم ضخم دون ظهور لأثر هذا التنظيم – إلا في الانتخابات، أو الجامعات مع ما يعتري ذلك من مشاكل تبعدهم عن المجتمع أكثر مما تقربهم.
  • نظراً للاهتمام بالتنظيم؛ فإن الإخوان صاروا أكثر ميلاً إلى تربية الجنود التي تسمع وتطيع، أكثر من اهتمامهم بتربية القادة الذين يحتاجهم المجتمع للتوجيه والريادة؛ فصار الإخوان ينتظرون التكليف في كل صغيرة وكبيرة.. فالجندي منفذ جيد، إلا أنه يحتاج دائماً إلى من يأمره، وإلى الأمر الذي يحركه، أما القائد فإنه ذاتي بطبعه يسارع (بالمفهوم القرآني للتسارع)، ولا يتباطئ.. تحركه دوافعه الإيمانية على الفعل العام قبل الخاص، وعلى إغاثة الملهوف دون ادعاء حكمة، أو خوف اندفاع..
  • وقد أفرز هذا الاهتمام بالتنظيم قادة حركيين منغلقين، جعلوا من التنظيم هدفاً في حد ذاته؛ رغم أن التنظيم لم يوجد إلا للدعوة والانتشار، وللتغيير والنهوض، وأصبح جل هؤلاء القادة حاضرين عند الحديث عن التنظيم، وأهدافه، ولوائحه، ووسائله (راجع مقالاتهم في موقع إخوان أون لاين)، وغائبين عند الحديث عن المجتمع وهمومه ومشاكله؛ مما أثر في اهتمامات الجماعة وأولوياتها، وقراراتها.
  • يزدادون انغلاقاً على أنفسهم؛ فيكتفون – إلا من رحم ربك - بعلاقاتهم الداخلية الخاصة؛ فيعيشون عالماً منعزلاً – شعورياً – عن حياة الناس العامة؛ رغم أن أدبياتهم، وسير قادتهم السابقين – في عهدي التأسيس الأول والثاني – تخالف هذا السلوك الانغلاقي؛ إلا أن واقع الأفراد الحالي أكثر تدليلاً على هذا الانغلاق، وعلى هذه العزلة.
  • أدى هذا الانغلاق إلى الاقتراب فقط ممن يرجى ضمهم، أو جذبهم إلى التنظيم؛ مما أدى إلى مزيد من العزلة والاغتراب؛ فجل الناس لا يقدرون على العمل التنظيمي، وتبعاته، وقواعده، وأوامره ونواهيه؛ فأغلقوا على أنفسهم أبواباً كثيرة من الخير، وحرمتهم كثيراً من التعايش مع المجتمع الذين يسعون إلى إصلاحه!
  • كما أن الاهتمام بالتنظيم، والعزلة الشعورية، والقيادة الحركية تنفر من المبدعين، وتقيد حركتهم، فهم إما مقيدون داخل جدار التنظيم، مستهلكون في تفصيلاته، أو منزوون منسحبون؛ فينطفئ إبداعهم، ويخسرهم المجتمع، وإما هاربون من التنظيم؛ فيخسرهم التنظيم، والمجتمع أيضاً في أحيان كثيرة.

قد يرى كثير من الإخوان في هذا الحديث غمطاً لحق الإخوان، وإهداراً لجهدهم، وابتلائهم؛ إلا أن النقد هنا هو للواقع الذي يحتاج إلى تغيير، وتصحيحاً لأوضاع تحتاج إلى وقفات ووقفات ممن يملكون أدوات التغيير، ويعطلونها في مجتمع تتسارع خطوات انهياره يوماً بعد يوم.. في مجتمع يحتاج إلى من يعيش همومه، ويقوده نحو التغيير..

ولكي لا يكون الحديث عن الإخوان نقداً محضاً دون تقديم نصح أو بدائل، فسأحاول في نقاط محددة تقديم هذا النصح، لعله يشير إلى الخلل، أو يدل عليه..

  • فالإخوان في حاجة ماسة لأن يغيروا من وسائلهم التي تناطح السلطة أكثر مما تقترب من الناس؛ فالإصرار مثلاً على المشاركة في الانتخابات العامة في ظل هذا النظام الفاسد، وفي ظل هذا التزوير الفج يخصم من رصيد الإخوان أكثر مما يضيف إليهم، ويعطل طاقتهم، ويهدرها في تمثيلية ممجوجة يمارسها النظام بلا حياء؛ فقد صار الناس ينظرون إلى الإخوان بأنهم ساعون إلى السلطة – رغم عدم صحة ذلك، وأنهم جزء من المعادلة الفاسدة في مصر المظلومة. وعودة الإخوان إلى الدعوة، واستعلاؤهم على المنافسة السياسية، وبقاؤهم كمرجعية للأمة كلها لكفيل بعودة الصورة الصحيحة عن الإخوان، وعزل للنظام الفاسد، وفضح له..
  • وعودة الإخوان إلى الدعوة – بكل مجالاتها – سيزيدهم قرباً من المجتمع، والتصاقاً به؛ فيعيشون همومه، ويساعدونه على النهوض، والتغيير المنشود، ويأخذون بيده لينتشلوه من مستنفع الفساد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يعيش فيه؛ ويصيرون علامات يهتدي الناس بها في ظلمات الفوضي التي تحيط بهم من كل اتجاه..
  • كما أن عودة الإخوان إلى الدعوة تربي الإخوان أنفسهم التربية الصحيحة التي توجه المجتمع ولا تنعزل عنه، وتخالطه ولا تتشرب منه سيء صفاته.. التربية التي تجعل السياسة جزءاً من الدعوة لا كل الدعوة.. التربية التي تعود بالإخوان إلى القرآن، والدعاء، كما تعلمهم الوقوف في وجه الظالم، ونصرة المظلوم.. التربية التي تقدم منهم القدوة الصالحة التي يفتقدها الناس في غمرة يأسهم بإمكانية التغيير..
  • والإخوان في حاجة ماسة لأن ينفك عنهم قيد التنظيم؛ فيصبح التنظيم موجهاً لا محركاً، ومرشداً لا منظماً؛ فينطلقون في ساحات المجتمع، موجهين تارة، وتابعين تارة، واقفين في وجه الظلم تارة، وناصرين للمظلوم تارة أخرى، ويتخفف التنظيم من تبعات الحركة المنظمة التي تعيق الأعمال، وتقيد المنتمين، وتحفز الظالمين، وتزداد الذاتية عند الإخوان؛ فتزداد بالتبعية عند عموم الناس، ويقترب الإخوان أكثر من المجتمع بكل فئاته دون انتظار تكليف، كما يقتربون من الساعين إلى التغيير دون شبهة حسابات خاصة، أو اتهامات مرسلة..
  • والإخوان في حاجة لأن يضيفوا إلى رصيد المجتمع من الطاقات؛ فيهتمون برعاية المبدعين من علماء، وأدباء، وفنانين، وخطباء، وقادة، وأن يقدموا لهم يد العون للتفرغ لإبداعهم، وتوفير المسارات التي تظهر إبداعهم، وتنميه دون حساسية الانتماء إلى تنظيم، أو اتجاه سياسي يعيق إبداعهم؛ فنماذج القرضاوي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، ونجيب الكيلاني، وتوفيق الشاوي، وحسان حتحوت، وخالد عودة، وغيرهم في حاجة إلى استنساخ يتلافى أخطاء الماضي التي أشار إليها هؤلاء المبدعون أنفسهم..

هذه النصائح ما كنت لأتقدم بها إلا حرصاً على هذا البلد، وحرصاً أيضاً على القوة المنظمة الوحيدة – حتى الآن – والمالكة لآليات التغيير، والقادرة على قيادة المجتمع نحو هذا التغيير بمزيد من الجهد والمثابرة والإبداع والتعاون مع كل قوى المجتمع..

إخواني.. أخواتي

إن التاريخ لا يتوقف عند أحد مهما كان سابق جهده، وشأنه؛ فالله لا يحابي أحداً..

وللإخوان في نجم الدين أربكان عبرة أدعو الله أن يعتبروا منها..

الأحد، ٦ يونيو ٢٠١٠

الطريق إلى الفوضى (6) – الدعاة الجدد

az3410 ظل الأزهر طوال طوال مئات من السنين المنبع المتفرد، والمسار الوحيد لتلقي علوم الدين في مصر، كما أنه ظل المدرسة الوحيدة التي تخرج العلماء، والدعاة، والوعاظ..

وفي بدايات القرن العشرين، ومع ظهور الحركات الإسلامية، ظهر دعاة غير معمَّمين، حملوا الإسلام إلى الناس خارج المساجد تارة بالممارسة العملية، وداخل المساجد تارة أخرى بالوعظ والإرشاد؛ ولكن بقيت العلوم الإسلامية، وتخصصاتها الفقهية والشرعية محصورة في رجال الأزهر حتى داخل الحركة الإسلامية الحديثة..

واستمرت هذه الثنائية.. الدعوية المفتوحة، والتخصصية المحصورة – إلا فيما ندر – حتى نهايات القرن الماضي؛ فظلت المرجعية الفقهية والشرعية محصورة على رجال الأزهر، يستوي في ذلك الحركيون، وغيرهم..

وعندما انسحب الأزهر تدرجياً من الحياة العامة – بضعف خريجيه وارتباطه المباشر بالسلطة – بدأ نجم ما يسمى بالـ "الدعاة الجدد" في الظهور، والانتشار..

وهؤلاء "الدعاة الجدد" قسمان:

  • قسم يخاطب الشباب بلغة عصرية، وبلهجة عامية تسويقية دون معرفة علمية، أو تخصص دقيق؛ فيخاطب المشاعر والوجدان، لا العقول والألباب، ويسرف في الحديث عن الأخلاق، والقيم، دون تأصيل، أو تمحيص، مخاطباً الفرد، لا الأمة، ومقدماً للدين كحلية تتوسط متع الدنيا دون تعب تخلية، أو تحلية، ودون مشقة زهد، أو ابتلاء مستغلاً في ذلك الوسائل التقنية الحديثة من اهتمام بالصورة، وإبهار في الإخراج، دون تدقيق في المحتوى، أو تقييم للأثر..
  • أما القسم الآخر فعلى النقيض من ذلك؛ فهو متيم بالمعرفة، وحدودها، وشكلها.. مهتم بالحروف والمظهر، لا المعاني والجوهر.. يطلب من الناس الحنق على الدنيا وطيباتها.. يُزّهِّد الناس فيها، وفي خيراتها.. يحصر الخير – كل الخير – في اتباع من سلف دون سواهم، خوفاً من بدعة يضل بها أهل الدين.. ولا يفرق في ذلك بين جديد الدنيا، وبدعة الدين.. يجعل الدين طلاسم تحتاج دائماً لمن يفك شفرتها، ويحل ألغازها.

ورغم التناقض الظاهر بين الفريقين إلا أن نجومهما يشتركون في أمور عدة تتمثل في:

  • غياب الدراسة العلمية المنهجية، والاعتماد على العامة في التقييم، والإنجاز؛ فإن كان الفريق الأول لا يدعي علماً، ولا فقهاً؛ إلا أنه يرى أن لا حاجة ماسة له في التزود بالعلم الشرعي المنهجي الذي يضبط الأداء ويقوم العوج، ما دامت علوم التسويق والإعلام كافية في ازدياد الأتباع، وكثرة المريدين.. بينما يرى الفريق الثاني العلم كتاباً يقرأ، أو حديثاً يحفظ، أو درساً يسمع من شيخ ذائع الصيت، ولا حاجة عندئذ للدراسة المنهجية، ولا للأبحاث المُقيَّمة، ما دام العامة يهتفون بحياتهم، ويشترون خطبهم المسجلة، وما داموا يُنعتون من هؤلاء العامة بأنهم أعلم أهل الأرض دون حاجة لمؤهل عملي، أو رسائل "ماجستير"، أو "دكتوراة"، أو حتى لكتب يقوم على نقدها المتخصصون؛ فالعلم في نظرهم ما هو إلا درس يلقى، وأذن تسمع!
  • الانسحاب من الحياة العامة؛ فقضايا البطالة، وحقوق العمال، والمال العام، والفساد، وتزوير الانتخابات، وغيرها من القضايا العامة هي بالنسبة للفريقين قضايا لا تستحق التعليق، أو النصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وهي خارج دوائر الاهتمام؛ لأنها عند فريق عرَض لضياع الأخلاق، وهي عند الفريق الآخر أمور تخص ولي الأمر واجب الطاعة، ونصحه فيها يكون سراً لا علناً!!
  • السطحية الشديدة في الطرح؛ فرغم أن الظاهر يوحي بأن هذه التهمة هي للفريق الأول دون الثاني إلا أن التدقيق في الخطابين يؤكد أنهما يصبان في نفس الاتجاه، ألا وهو البعد عن العمق، والنواحي العملية في حل ما يحيط بالأمة من مشكلات؛ فالقضايا الكبرى للأمة يتجاهلها الأولون تماماً؛ لأنهم مشغولون بالبناء الفردي للشباب، والبنات، حيث لا وجود للضمير الجمعي في خطابهم الدعوي، أما الفريق الآخر فيرى أن العقيدة (النظرية)، والعلم المجرد هما المكونان الأساسيان لعودة الأمة، ولاسترداد أراضيها، ومقدساتها، ولا سبيل غير ذلك، وأذكر شريطاً مسجلاً سمعته لأحد هؤلاء في ذروة اقتحام القوات الأمريكية للأراضي الأفغانية عام 2001م، وهو يتحدث عن أحاديث الفتنة وآخر الزمان، وكيف أن الرسول أخبرنا بهذا، وأشار إلى ذلك، واستمرت الخطبة العصماء هكذا مخدِّرة في النفوس، داعية (ضمناً) إلى الاستسلام للمصير المحتوم؛ وسيأتي النصر لا محالة إذا ذهبنا إلى مساجدنا، واستمعنا لدروس علمائنا، وفهمنا عقيدتنا (النظرية)!!

ومن المؤكد أن هناك تباينات أكثر، واختلافات أشد بين الفريقين من الدعاة غير المتخصصين؛ إلا أنهم يمثلون حالة الرمزية لعموم الناس، الذين يتردون في الأخلاق، والمعاملات، والضعف، والانكسار، والذل والهوان.

وأمام ذلك التردي لا يتوقف كلا الفريقين عن طريقه الذي اختاره؛ فيراجع نفسه، ويراجع حال أمته التي انهالت عليها السهام من كل صوب، بل إنهم راضون فرحون بأدائهم، وأتباعهم..

وصحيح أن المستفتين يتزايدون، وأن مقيمي الشعائر يتكاثرون، والمساجد في ازدياد؛ ولا شك أن لهؤلاء، وأولئك دور كبير في ذلك؛ إلا أن الأمراض الاجتماعية تتغول، والفساد ينهش، والفقراء يزدادون فقراً، والأغنياء يزدادون غنى، وهؤلاء وأولئك غافلون، ويحسبون أن كلماتهم المتناثرة هنا، أو هناك تعفيهم من مسئولية الأمانة التي حمّلوها لأنفسهم..

ففي سنى عمري الأولى لم يكن هناك هذا العدد من الدعاة، ولم تكن هناك كل هذه الوسائل السمعية والبصرية التي تنقل الدروس والخطب؛ وبالتبعية لا أذكر أنه قد كان هناك كل هذا العدد من المعتمرين، والمنتقبات، والملتحين؛ إلا أن الناس كانت وقتها أكثر تراحماً، وأقرب وداً، وأنقى قلباً..

كان وقتها الموظف المرتشي نادرة يتندر بها الناس، وكذلك المدرس البليد، والعامل الكسلان، ورغم أن الفقر كان موجوداً؛ إلا أن الرضا كان مقروناً به يخفف من ألمه، ومن عذاب العيش معه..

ويطرح هنا سؤال نفسه: ألم يكن مشروع هؤلاء صلاح الأخلاق؟ فأين هذه الأخلاق التي تم إصلاحها؟ وألم يكن مشروع أولئك هو تصحيح العقيدة؟ فأين ذلك الإحسان الذي تستوجبه العقيدة، وأين ذلك الرضا وهو من أركان العقيدة؟ وأين تلك الشجاعة في مواجهة الفساد والباطل، وهي من صلب بناء رجال العقيدة؟

إن هؤلاء وأولئك ليجروننا إلى فوضى عظيمة، فوضى تخدير النفوس بكلمات تـُنقل إلى الأسماع، ولا تتحرك بها القلوب، أو تنفعل بها الأبدان.. كلمات جاء بها الدين ليوقظ النُّوَّم، ويستنهض الغافلين، لا ليغيب العقول، ويسترخي الأجساد..

إن ديننا عظيم، ولا يستحق حمل أمانته إلا من وعاه بقلبه قبل عقله، ومن مارسه بنفسه قبل دعوة غيره.. إن ديننا دين نهضة، ودين عزة، لا دين تخلف، وخذلان..

إننا بحاجة لدعاة عمل لا دعاة قول، وبحاجة لعلماء متخصصين منهجيين مجتهدين، ولسنا في حاجة إلى حفظة نقلة مُقلِّدين..

والناظر المتجرد لأمر الدعوة، والعلوم الشرعية، ولحملتها في الفترة الحالية ليدرك تمام الإدراك أنها قد أصبحت جزءً من الفوضى الخلاقة التي تستهدف الأمة وكيانها، فهل نحن منتبهون؟

إخواني.. أخواتي

كما ترفضون أن يداويكم غير الطبيب المتخصص، فلترفضوا أيضاً أن تتلقوا علوم دينكم من غير المتخصص..

وأن تمارسوا الدعوة بأفعالكم؛ وأخلاقكم خير لكم من أن تتلقوها من أهل التسويق والإعلام..