كثيراً ما أرى فى طريق سفرى مسجداً فخماً ذا مئذنة عالية، وقبة ملونة قد أنفق عليه عشرات إن لم يكن مئات الآلاف من الجنيهات، وذلك وسط مربع سكنى لا يتجاوز عدد بيوته الخمسة بيوت تقريباً إن لم يكن أقل.
وكنت أسأل نفسى:
أليس هذا تبذيراً يأباه الله عز وجل؟
ألم يكن من الأولى أن تذهب هذه الأموال لمستشفى ينقصه جهاز غسيل كلوى؟ أو إلى مدرسة تهالكت جدرانها، وقل عدد فصولها؟ أو إلى شباب يريدون الكسب، أو التعفف؟
أيرضى الله عز وجل ببناء بيته بهذه الآلاف المؤلفة، وهناك آلاف إن لم يكن ملايين من المسلمين يحتاجون من يسد جوعتهم، ويستر أجسادهم، ويداوى أبناءهم وآباءهم؟
وكما أعلم - ويعلم غيرى - أن الأحكام الشرعية قد تنتقل ما بين الحِل والحُرمة، والنـَدب والكراهة، والجواز باختلاف الحال، والزمان، والمكان؛ فقد يكون الشىء مندوباً فى موطن، ومكروهاً فى موطن آخر، وقد يكون حراماً فى موضع ثالثٍ، وهكذا..
فإن كان بناء المساجد مندوباً فى بقعة ليس بها مسجد، أو ضاق مسجدها بالمصلين؛ فإنه يصير مكروها فى بقعة أخرى امتلأت بالمساجد، حتى صار كل مسجد يستقبل عشرة أو عشرين مصلياً.
أذكر أنى قد شاركت فى وأد فكرة لإقامة صلاة الجمعة فى مصلى صغير بجوار منزلى فى بلدى؛ بأن أقنعت المصلين: بكون المصلى الذى لا يتسع بالكاد إلا لخمسة وعشرين مصلياً لا يصح أن يكون سبباً فى تفريق المسلمين عن صلاة هى أساساً لتجميع المسلمين على كلمة واحدة، ومنبر واحد، ومكان واحد.. قلت لهم أن المصلى كاف لتقام فيه الصلوات الخمسة، أما الجمعة فلتقم فى المسجد الجامع الذى لا يبعد عن مصلانا سوى مائتى متر، وقد اقتنعوا، والحمد لله، وظل المسجد حتى الآن للجماعة فقط دون الجمعة.
وما أعرفه أيضاً أن المبالغة فى تزيين المساجد مكروه، وأن المساجد على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وسلفه الصالح كانت بسيطة فى بنائها، غير متكلفة ولا مُزَيـَّنة، وظل الوضع هكذا حتى جاء خلفاء بنى أمية، وخالفوا السنة بهذه المبالغة فى التزيين، والإنفاق على المساجد، وأجاز بعض الفقهاء ذلك حتى لا يقل شأن المساجد عن غيره من دور العبادة الأخرى؛ أى أن الأصل هو البساطة، وليس العكس.
أقول هذه المقدمة - الطويلة نسبياً - كمدخل أراه مناسباً لموضوع بناء الكنائس، وما يستصحبها دائماً من ضجيج، وجلبة، وصياح، وإصابات فى الأرواح، والمساكن، والعلاقات بين أهل البلد الواحد.
فأنا أرى أن الإسلام أحرص ما يكون على أن يقيم أهل الديانات الأخرى صلواتهم، وعباداتهم فى أماكن يجتمعون فيها آمنين مطمئنين ما دام ذلك فى إطار العبادة.
كما أن سلفنا الصالح قد فعلوا ذلك؛ فلم نسمع عن كنيسة هدمت، أو رهباناً شردوا.
وظل الأمر فى إطار واحد هو الاحتياج؛ فإن كثر أهل النصرانية فى مكان ظل مكان عبادتهم مصوناً محمياً من الدولة الإسلامية، ومن المسلمين أنفسهم، وإن انعدم هذا العدد بدخول أهل البلد فى الإسلام ما عاد هناك داعٍ لبقاء الكنيسة.
هكذا صار الأمر، واستقر الوضع؛ فبقى دير سانت كاترين كما هو، وبقيت كنيسة القيامة، وغيرهما شاهدين على عظمة هذا الدين، وعظمة أهله، ورفقهم بغير المسلمين فى مجتمع يسوده البر والقسط كما أمر الله بهما.
أما الآراء الشرعية التى قال بها بعض الفقهاء فى قديم الزمان فكانت اجتهاداً، لا نصاً.. اجتهاداً بنى على ظروف وعوامل بيئية، ومجتمعية، وظروف خارجية محيطة قد تضطهد المسلمين، وتمنع دعوة الله للوصول إلى الناس.
وهذه الفتاوى المبنية على الاجتهاد دون النص (القطعى الدلالة القطعى الثبوت) لا تلزم أحداً فى عصر غير العصر التى صدرت فيه، ولا بشراً غير البشر الذين عاشوا ظروفها. ويبقى دائما النص (قطعى الثبوت قطعى الدلالى) هو المنبع الصافى الذى نرجع إليه دائماً، نستشهد به، ونسير على دربه.
وأما تحريق البيوت بهذا الشكل الذى رأيناه على شاشات التليفزيون، فهو مما يخالف البر الذى أمرنا الله به، وعلمناه من فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع غير المسلمين فى المجتمع المسلم؛ فهو فعل يستحق صاحبه العقاب، بل والعقاب الشديد لأنه قد آذى أبرياء، واقتحم عليهم بيوتهم، ودورهم بشكل همجى لم نعلمه قط من مسلم صحيح الإسلام، ومؤمن صحيح الإيمان.
فأنا أحسب أن هذه الأفعال ما هى إلا أفعال غوغاء، يحركها التعصب لا الدين.. يحركها حب الذات لا حب الله.. يحركها الجهل لا العلم.. يحركها الكره لا الدعوة..
قد يسأل قارئ عن العلاقة بين المقدمة، وبين صلب الموضوع، والعنوان؛ ولكن من يدقق النظر فى الأمر، سيجد أن الحل ما هو إلا بقانون واحد لبناء دور العبادة يحكمه قاعدة واحدة فقط هى الحاجة.. حاجة المكان، وأهل المكان؛ فإن كان المكان غير محتاج لبناء مسجد فليمنع بناء المسجد؛ وإن المكان محتاجاً لبناء كنيسة فلتبنى الكنيسة.
ما المانع فى ذلك؟
هل يغضب أحداً أن يجد الآخر مكاناً يتعبد فيه بطريقته التى سيحاسبه الله فقط عليها؟
هذا ما أعتقده وأراه قابلاً للتنفيذ؛ ولكن كى لا يكون الكلام تحليقاً فى دنيا الأوهام، وبعيداً عن أرض الواقع فإن هناك بعض الأمور التى تحتاج إلى تحرير:
أولها: أن الدولة صارت خصماً للطرفين.. للمسلمين، وللمسيحيين على السواء؛ فالأولون يرون الدولة خاضعة لحرب عالمية على الإسلام، وعلى مناسكه، وشعائره، وأحكامه وتشريعاته، والآخرون يرون الدولة إسلامية تضطهد أبناء الكنيسة، وتحرمهم من الوظائف، ودور العبادة، وتسكت على ما يسمونه خطفاً لأبنائهم، وبناتهم.
لذا فالدولة بوضعها الحالى غير مؤتمنة على تطبيق هذا القانون الذى لا بد أن يسرى على الجميع، دون شك، ولا اتهام..
دولة قوية لا يحكمها إلا القانون؛ فلا يستطيع أن يغيرها تليفون من مسئول، ولا تقرير من جهاز أمنى موتور.
لذا فالمسلمون، والمسيحيون محتاجون إلى تغيير الوضع القائم الذى يهدم فكرة القانون من أساسها.. يهدم فكرة العدل، والمساواة.
ثانيها: أن الكنيسة صارت تتعامل على أن لها شعباً اسمه شعب الكنيسة، وصارت هذه الكلمة متداولة على صفحات الجرائد؛ رغم أن هذه الكلمة تهدم فكرة المواطنة التى ما فتأ المفكرون الأقباط، والعلمانيون فى الطنطنة بها، وحولها ليل نهار..
فأى مواطنة إذن وهناك شعب داخل شعب.. وشعب له قيادة يتعامل معها على أنها الكفيلة بحمايته، وطلب حقه من الدولة الأم.
ثالثها: أن شؤون الكنيسة لا بد أن تكون جزءاً من هذه الدولة المنشودة.. دولة القانون، والمساواة..
وبالتالى فشؤون الكنيسة لا بد أن تتابعها وزارة من وزارات الدولة، لا جهاز أمن الدولة؛ وبالتالى فهذه الوزارة تتولى متابعة ما يحدث داخل الكنيسة شأنها شأن المساجد التابعة لوزارة الأوقاف (أو وزارة شئون الأزهر كما نأمل فى الدولة المأمولة)..
تخضع هذه الوزارة، ووزيرها لرقابة مجلس الشعب شأنها شأن سائر الوزارات، ويُقوَّم الخلل فيها كما فى غيرها.. تخضع للجهاز المركزى للمحاسبات كما تخضع كافة أجهزة الدولة.. تعرف الميزانيات، والتبرعات من أين أتت؟ وفيم أنفقت؟
يحصل منتسبوها، ورجال الدين فيها على مرتباتهم من أوقاف هذه الكنيسة الخاضعة للدولة، ويخضعون لنفس الدرجات المالية التى يخضع لها زملاؤهم من المسلمين.
وبهذا تختفى الخرافات، والأساطير، والحكايات التى تروى عن الكنائس وما يحدث بداخلها، وما ينفق عليها.
رابعها: أن يعلم كل طرف من الطرفين أن التدين نعمة، لا نقمة.. وأن إبعاد الدين عن ساحة المسلمين هو خطر على المسيحيين؛ وأن إبعاد الدين عن حياة المسيحيين هو خطر على المسلمين؛ لأن الجهل حينها سيكون هو الحكم، وأن التعصب حينها سيكون هو الشرر الذى تنلدع منه نار الطائفية.
خامسها: أن تبتعد الكنيسة، والأزهر عن القيام بدور التابع فى الحياة السياسية؛ وذلك بمساندة طرف دون طرف، أو الوقوف مع حزب على حزب آخر.
ولتلعب وقتها المؤسستان دورهما ككيانين مستقلين يدفعان الأمة فيما اتفقت عليه من حفاظ على قيمها، وأخلاقها، والوقوف ضد أعدائها، وليبتعدا عن الحزبية الضيقة التى تستغلها الدولة الحالية فى إقصاء منافسيها.
ولكى أكون أكثر وضوحاً فإن ما فعله الأزهر، والكنيسة فى الانتخابات الرئاسية، والبرلمانية الماضيتين أمر يثير الفرقة، ويثير الحساسية لدى الطرفين.
هذا ما أردت أن أقوله فى هذه الأزمة التى تكررت كثيراً، وستتكرر أكثر إذا ما لم تحرر مثل هذه الأمور التى تزيد الاحتقان، وتنفخ فى الرماد.
والله من وراء القصد..
والسلام
تحياتى اخى الفاضل رائع ما كتبت حليل وحل للمشكله من اروع ما قراءة فى حياتى انى معك فى كل ماقلته
ردحذفوالجزء الرابع منه عجبنى بشدة
ايدك واتمنى ان ينشر مقالك على الناس كافه او يطبع ويرسل الى كل ذى شان
وفقك الله ورعاك وامدك بكلمات من عنده لتنفعنا بها
تحياتى
جميل جدا
ردحذفنقاط جيدة ومرتبة
انا معجب بالترتيب والتأصيل
وقد اختلف في بعض التفصيلات الصغيرة
لكن الصورة العامة تبدو بالفعل مكتملة لديك
وهذا مبشر بخير الحمدلله
ما شاء الله
ردحذفكلام جميل ومرتب ..
لكني كنت اتوق الى مزيد من التفصيلات الفقهية حول موضوع بناء كنائس جديدة ..
جزاك الله خيرا
شكرا على هذا الموضوع القيم .. لكن أترى أن هذا القرار يمكن أن يكون بمعنى مباشر وصريح هل الدولة المصرية تستطيع بسط سيطرتها القانونية على الكنائس المصرية كما المساجد أم أن هذا من الخطوط الحمراء
ردحذفلا فض فوك يا عم خالد.. كلامك في الصميم
ردحذفإسمح لي أنحني تواضعا أمام قلمك المبجل
تحياتي
نفس ما سبق وناقشنا فى تدوينة عندى
ردحذفغير أنك تناولت ما لم أستطع أن أتناوله مع أنك لم تتعرض للذى لم أستطع التعرض له
الإجتهادات الفقهية التى تقرؤها فى هذا الموضوع كله
على حسب ما رأيت كانت بنصوص كلها ظنية الثبوت وبعضها قطعى الدلالة
أحاديث ضعيفة
وبالتالى لم أستطع أن أتعرض للكلام فى هذا الأمر بصفتى غير مفتى و بصفتى جاهل بهذا الأمر
لكنك عرضتها بشكل ممتاز
ومرتب
وسهل
ومتفق عليه كمان
محدش يقدر يخالفك
الله ينور
أخى العزيز
ردحذفأشكر لك تناولك لهذا الموضوع الشائك , نحن محتاجين لم يفتح هذة المواضيع , لماذا تكون تكلفة المساجد بهذا الأرتفاع , ماذا لو كانت التبرعات التى تبنى بها تلك المساجد , تذهب لمستشفى لغسيل الكلى , او لأى شئ آخر .
وأشكرك لتناولك موضوع الكنائس فى مصر للأسف الكنيسة الأن دولة داخل دولة , والأقباط فى مصر , أنتمائهم الأول للكنيسة وليس لمصر , وهذة حقيقة وسأدلل عليها فى موضوع سأدونة فى مدونتى
حمادة زيدان
الإخوة الأفاضل
ردحذفضد الظلم، وابن عبد العزيز، والديب، وحمادة المصرى، وقندسيل، ومحمود سعيد، وحمادة زيدان
جزاكم الله خيراً جميعاً على تواصلكم.
وبالنسبة للتأصيل الشرعى للموضوع فأنا راجعت بعض الفتاوى الصادرة فى هذا الأمر، ووجدتها فعلا لا تستند إلى دليل قوى يقطع المسألة قطعاً كاملاً؛ بل إنى رأيت فتوى للشيخ عبد العزيز آل الشيخ يستشهد بحديث لم يخرجه أصلاً، ولم أجد له أصلاً فى كتب الأحاديث جميعاً، وهو أمر غريب لصدوره من احد أقطاب المدرسة السلفية الحديثة.
أما اجتهاد الفقهاء فى هذا الأمر فهو غير ملزم ما دام غير مستند لدليل يمنع غيره من الاجتهاد بطريقة أخرى.
خاصة وأن الأمر يخالف المنطق الذى ورد فى آيات القرآن والسنة لحماية دور العبادة، وتأمينها بل إن الله سبحانه وتعالى يقول: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا"
بمعنى أن الله سبحانه يسبب الأسباب للحفاظ على هذه الدور المخصصة للعبادة حتى لو رأيناها نحن على ضلال.
لذا فالعقل والمنطق يقول أنه بتناسل غير المسلمين، وتكاثرهم فهم بحاجة لبناء دور تكفى لعبادتهم.
أقول هذا الكلام وأنا لا أزعم الإفتاء، وليس لى مورد فيه؛ ولكنى - أنا العبد الفقير - لم أرَ فعلاً فتاوى واضحة صريحة تستند إلى دليل قاطع فى هذا الرأى؛ بل هى اجتهادات لأصحابها، وهم على العين والرأس؛ ولكن الفتوى غير الحكم.
فالفتوى تختص بزمان ومكان وأشخاص معينين، أما الحكم فثابت ثبات الدين، صالح لكل زمان، ومكان إلا فى حالة الضرورة.
وبالنسبة للأخ/ حمادة المصرى
فعلاً انا أعرف أن أمر الكنائس خط أحمر، ولكن الدعوة إلى ذلك ستعرى الدولة، وكل من يطنطن حول فكرة المواطنة، فهذه الفكرة أمل منشود أولاً، وفضح لمن يرفضون المواطنة فى دواخلهم ثانياً.
أما بالنسبة للأخ/ محمود سعيد
فعذراً أنى لم أقرأ مدونتك الخاصة بهذا الأمر قبل كتابة مدونتى، وقد ورد فيها فعلاً ما يتوافق مع رأيى؛ كما أن تعليقاتها أكثر سخونة، وزوارها أكثر تنوعاً من مدونتى؛ لذا فقد كانت أكثر أثراً فى الحوار والتعليقات.
وعلى العموم سأراجع هذه التدوينة، وتعليقاتها جميعها بقراءة أعمق، وإذا احتاج الأمر إلى تعليق فسأعلق عليه بإذن الله.
أتمنى أيضاً أن تنتشر هذه الفكرة والدعوة إليها، خاصة أن هناك تركيزاً شديداً على فكرة المواطنة هذه الأيام، فهذه الفكرة تلقى الكرة فى ملعب الطرف الآخر الذى يدعى دائماً أنه محروم من هذه المواطنة؛ وليكن ذلك سبيلاً لإعلاء دولة القانون التى ننشدها جميعاً.
وجزاك الله خيراً.